بدءا أقول صادقا انني لم أفتر كذبا على قادة الانقاذ بهذا العنوان. فالرئيس البشير شخصيا وليس احدا سواه هو الذي وصف السودانيين المتظاهرين جوعا بأنهم شذاذ آفاق قبل ان يهددهم بإنزال المجاهدين الحقيقيين للتعامل معهم. ولكن الرئيس ناقض نفسه حين زعم ان احدا من الشعب السوداني لم يخرج مع شذاذ الآفاق هؤلاء. اذن لماذا كل هذا الغضب المضري ضد المتظاهرين اذا لم ينجحوا في استدراج احد من افراد الشعب للخروج معهم. كان المتوقع ان يفرح الرئيس لفشل المتظاهرين ولا يغضب. ولكن الشارع العريض خرج. وقنابل البمبان خلصت من مخازن الشرطة. السيد علي عثمان محمد طه نائب الرئيس البشير تلي الرئيس في السخرية من الشعب السوداني ووصفهم بالمرجفين في المدينة الذين فشلوا في اقتلاع شجرة الانقاذ. هذا وصف ظالم زم ّ به المولى عزّ وجلّ منافقي المدينة اليهود الذين مردوا على النفاق والشقاق. ولا يجوز اطلاقه على مؤمنين جائعين يشكون لطوب الارض من المسغبة التي يعانون منها بسبب فشل سياسات قادتهم بالاكراه. مساعد الرئيس البشير الدكتور نافع علي نافع تفنن في السخرية والهزء من المعارضة الديمقراطية ووصفهم بفاقدي البصر والبصيرة وطلب اليها ان تلحس كوعها اذا ارادت معارضة الحكومة. قبل ان يعقبه الدكتور مصطفى عثمان وزير الخارجية السابق ومستشار الرئيس اللاحق ويصف الشعب بأنه كان شعبا شحادا قبل ان ينبلج فجر الانقاذ الميمون. اذا كان هذا هو رأي قادتنا الانقاذيين فينا بعد ربع قرن من الزمن قضيناها نبؤ تحت احذيتهم الثقيلة، فاننا لا نسألك رد قضائك فينا ولكننا نسألك اللطف فيه. فهذا رئيس الامر الواقع يسمنا بسمة شذاذ الآفاق. بينما وسمنا نائبه بأننا مرجفون. وقبله وسمنا مستشاره المعجزة بأننا شعب شحاد. كل هذا لأننا قلنا اننا جائعون ومرهقون جسديا وماديا وروحيا ومعنويا. ولا نستطيع تحمل تبعة السياسة المالية والاقتصادية التي اخطتها حكومة الرئيس البشير ونائبه في الايام القليلة الماضية. رئيس الشعب السوداني، الذي اشتهر بالرقص الطروب، اشتهر كذلك بأنه رجل مرسل السجية. ويستجيب بصورة تلقائية وعفوية للشحن العاطفي والحماسي الضار. والجالب للحرج والعنت السياسي له شخصيا ولنظامه ولمؤيديه مع المراكز السياسية والسيادية الدولية التي تتوقع نهجا ومسلكا يختلف كلية عن النهج التهريجي العفوي الذي يرونه في الوسط السيادي السوداني السائب هذه الايام. لقد حفظ الشعب السوداني للرئيس المبتهج في الفارغة، له كثيرا من الهنات والتجاوزات اللفظية والسلوكية، من ايمانات مغلظة و(طلاقات) مسيلة للدموع الضاحكة وللسخريات الجارحة والهزء. وصاروا يتفننون في متابعة تجليات رئيسهم وخطبه المتفلتة. واصبحوا يحصون عليه انفاسه حتى صار لا يلفظ من قول الا ولديه رقيب وحسيب. سجل الرئيس الطروب في الكلامات المارقة والمرتدة هو سجل ضخم لا تفنى عجائبه. مثلا يقسم الرئيس في حالة من الانفعال ان ( برنيطة ) زرقاء واحدة لن تدخل السودان او دارفور الا فوق جثته. في اشارة الى قوات الاممالمتحدة. حتى اذا اصبح الصبح، ألفى الشعب السوداني عشرات الالوف من اصحاب القبعات الزرقاء وهم يتجولون في مطارات وشوارع المدن السودانية بعد ان تحول السودان الى حديقة خلفية على الشيوع الدولي والاقليمي للامم المتحدة وللدول الكبرى، تملي عليه ارادتها باقامة ما تريد من معسكرات نازحين ومراكز للوجود الاممي لتقديم الغذاء والكساء جبرا لجائعي السودان الذي زعم السيد البشير في بيانه الانقلابي الاول ان السودان على عهده الجديد سوف يأكل مما يزرع ويلبس مما يصنع ويفوق العالم اجمع مثلما قالت اغنية الانقلاب الاولى الفرحة بانقلاب السيد البشير يومها. ولكن الشعب السوداني صار يتذكر ذلك الادعاء ويضحك مما يسمع! انهمرت قوات الاممالمتحدة والقوات الاقليمية والدولية الاخرى الى داخل السودان ودارفور تحديدا بقوة الارادة الدولية التي قالت انها لن تسمح بأن يموت أهل دارفور جوعا ومرضا ولم يجد الرئيس الملتهب طربا متسعا من الوقت لكي يكفر عن يمينه المغلظ فسردب، وانحنى للمشيئة الدولية. وترك لكوادره الحزبية التي تحولت بالقدرة الانقلابية الى دبلوماسيين في وزارة الخارجية المنكوبة، ترك لهم امر تفسير وتبرير وتلوين مواقف الرئيس التي تستعصي على التفسير والتبرير لولا مقدرة كوادر الرئيس على اللف والدوران والمغالطة واستخراج الشربات من الفسيخ المر. كوادر حزب السيد البشير الذين وجدوا أنفسهم بقدرة قادر في مواقع الريادة الدبلوماسية، اصبحوا أكثر الناس شقاء حين وجدوا أنفسهم مضطرين للدخول في مغالطات جسيمة، يبررون فيها الذي يستحيل تبريره من المواقف. ينكرون الثابت بالضرورة. ويشرحون ما هو اوضح من نور الشمس. ويلونون العصي على التلوين. وتصبح حالهم عندها مثل حال من يحاول تغطية وهج الشمس بأصابعه. بدل التوضيحات المتعرجة والاعتذارات المغلفة وغير المباشرة زوغانا من الشينة المنكورة كما يقول المثل الشعبي السودان المطروق هو جهد ذي عائد ضئيل وبضاعة غير المرغوبة في سوق السياسة الدولية. الدبلوماسي السوداني المحترف يحتاج لكي يعرف انه مراقب في كل المواقف الحربائية والبلهوانية الى يقوم بها دفاعا عن باطل حنبريت لا يمكن الدفاع عنه او تبريره لا سيما حين يجعل الاسود ابيض والابيض اسود. فغدا يذهب المنصب والموقع وتبقى المواقف المزرية. الرئيس السوداني اشتهر باطلاق نفسه على سجيتها في مهاترة شعبه بأقذع الاهانات. وصف المتظاهرين الجائعين من ابناء شعبه بشذاذ الآفاق. وتهديدهم بإنزال مجاهديه المسلحين لابادتهم هو خطأ يجل عن الوصف. ويعكس سوء تقدير وقلة فطنة سياسية في ظرف دقيق تمر به سلطته وكان اجدر به النزوع الى التهدئة بدلا من زيادة النيران اشتعالا. ولا يعيد حكاية الامبراطورة ماري انطوانيت زوجة الامبراطور الفرنسي لويس السادس عشر التي استغربت خروج المتظاهرين الى الشارع احتجاجا على عدم توفر الخبز في حين كان يمكنهم الاستعاضة عن الخبز بأكل الجاتوه. الجائعون السودانيون الذين لا يجدون مالا يشترون به حاجياتهم المعيشية في ظل انهيار قيمة العملة السودانية وارتفاع اسعار السلع الغذائية ليسوا شذاذ آفاق. انما هم ضحايا غدر بهم فشل حكامهم. ويستحقون المؤاساة بدلا من التهديد بالقتل على ايدي الميليشيات المسلحة (المجاهدة ). لقد ابتذل الانقاذيون مفهوم الجهاد الى درجة الصفر في زمن التردي الشامل هذا. ويلحظ المواطن المغلوب على امره هذه الايام جنوح اعلام حكومة السيد البشير نحو لغة الحرب والترويج لها يقاتل عدوا وهميا مثل دون كيشوت الاسباني الذي كان يقاتل طواحين الهواء فيقتل نفسه بالوهم ولا يقتل عدوا. والحال هذه، يبدو انه لم يعد هناك من أمل لتصحيح هذا الخلل السلوكي في سلطة هي عائرة بالاصل قبل ان تلهب بمزيد من السياط. تصرفات النظام المتوترة وغير المحسوبة نراها في استهداف النظام لحزب الأمة اكبر الاحزاب السودانية ذي القاعدة العريضة المصادمة لندوة سياسية كانت تناقش الاوضاع المتأزمة في البلاد. وتعكس هذه الحادثة مدى التشنج السياسي الذي يعتمل في صدر النظام السوداني. فالمهدي المستهدف حزبه يجلس نجله الاكبر العقيد عبدالرحمن بجانب الرئيس في القصر الجمهوري في منصب مساعد رئيس الجمهورية. وكان البشير يغازل المهدي لكي يضمه وحزبه الى حكومته. وقبل ان تأتي مجهودات البشير اكلها خربت عليه قوات أمنه مساعيه باستعراض عضلاتها ضد حزب الأمة والانصار بالاعتداء على مظاهرة انصارية خرجت من جامع الانصار العتيق. كما ابلغت قيادة حزب الأمة بأنها اوقفت كل النشاطات العامة في دار حزب الأمة من ندوات سياسية وغيرها. ورد حزب الامة بتحد قاطع وقال انه لن يوقف نشاطات دار حزب الامة واعلن عن ندوة فورية عقدت في اليوم التالي مباشرة. هذه الاعتداءات المستفزة ضد طائفة الانصار التي لم يكن احد يتجرأ على استفزازها او غمز جانبها، يتوقع المراقبون ان يواجه النظام خصما سياسيا عنيدا كم بذل من جهود في الماضي القريب لكي يتفادى الاصطدام به. لقد صادم الانصار كل الانظمة الشمولية التي مرت على السودان، بدءا بعبود الذي صادموه في معركة المولد الشهيرة، ومرورا بالنميري الذي صادموه في الجزيرة ابا والكرمك ويوليو 76. ويتوقع المراقبون ان لا يمتد صبر الانصار ويطول على حكومة الانقاذ اطول من هذا في ظل تصرفات حكومة الانقاذ الاستفزازية الاخيرة ضد الانصار وحزبهم. بقي ان يعرف السيد البشير ان خطته لضم ابن السيد المهدي الى حكومته لم تأت اكلها، اما جماهير الانصار، فهي لا ترفض تصرف ابن السيد المهدي فحسب، انما تطالب بطرده وشطبه من كيان الانصار الاكبر ونعني به هيئة شؤون الانصار التي أخلى ابن السيد المهدي مواقعه فيها بالاستقالة. ولكن الانصار يطالبون بشطب اسمه من كشوفات العضوية القديمة قطعا لكل طرق العودة المستقبلية امام المهدي الصغير. هل عرف السيد البشير اخيرا ان جهوده لضم اسرة السيد المهدي كانت جهودا ضائعة. ان معارضة كوادر حزب الامة الحادة لنظام الانقاذ كانت وما زالت هي المصد القوي لمحاولات الانقاذ لجذب حزب الأمة القومي الى حلفها المكون من احزاب ورقية بلا قواعد وصفها عراب الانقاذ السابق الشيخ الترابي بأنها احزاب زينة زخرفية لزوم الديكور السياسي