لقد ظهرت في الأونة الأخيرة بعواضم ولايات السودان المختلفة، وبصفة خاصة العاصمة المثلثة، العديد من الظواهر الشاذة والمجموعات المتفلتة. ولا يزال مع بزوغ فجر كل يوم تبرز ظواهر ومجموعات كالنبتات الطفيلية، أكثر خطرا على أمن الوطن والمواطن. ولكن أكثر الظواهر خطورة هي ظاهرة العصابات المتفلتة والمنظمة التي تجوب أحياء وشوارع العاصمة المثلثة أناء الليل وأطراف النهار. وقد دأب الكثير من الصحفيين ورجال الأمن والمواطنين على إطلاق مسمى (عصابات النيغرس) على هذه المجموعات. وعند السؤال عن ماهية هذه المجموعات ومن أين أتت؟ فإن الإجابات تتعدد وتتنوع، فهناك من يفيد بأنها مجموعات قادمة من نيجيريا ومنهم من يقول انها أتت من مصر والبعض الآخر ينسبها الى المرحلين من لبنان... الخ. وحقيقة الأمر أن هذه المجموعات لاتمت الى ماذكر بأية صلة حيث ان التنظيم الدقيق لهذه المجموعات ونوعية الأسلحة التي يستخدمونها من بيضاء ونارية وخلافه، وطريقة إنتقاء فرائسها ذات الغلة الجاهزة، بالإضافة الى الظروف الإقتصادية الحرجة التي يمر بها المؤتمر الوطني منذ انفصال الجنوب، فإن كل هذا يضحض مسمى "نيغرس" على هذه العصابات. وعلى العكس من ذلك فإن كل هذه المعطيات تشير بجلاء لا لبس فيه الى أن هذه العصابات ما هي إلا خفافيش الظلام والإذرع الأمنية لأمن نظام المؤتمر الوطني والتي تربت وترعرعت في كنفه ورغد عيشه طيلة هذه السنين حيث كانت ميزانياتها مفتوحة ولا سقف لها. ولكن الآن وبعد أن جف ضرع المؤتمر الوطني، نتيجة لتوقف ايرادات البترول التي كانت تصرف جلها على هذه الفئات والفصائل، فقد انقطع ذلك الصرف البذخي على هذه المجموعات الأمنية التي كانت تستنزف جميع موارد البلاد (كان الصرف عليها يفوق اضعاف مضاعفة عما يصرف على الصحة والتعليم مجتمعة). وبما ان هذه الفئة الأمنية تعودت أن تقتات على الجاهز من موائد المؤتمر الوطني، فإن السبيل الوحيد والمتاح أمامها هو سبيل الخطف والسلب والسطو المسلح الذي هو جزء أساسي من تكوينها وتدريبها وتنشأتها، فقد اتخذته أقصر الطرق للتعيش والتكسب من خلاله. والشاهد على هذا فإنه وبالرغم من الحوادث والشكاوي والمناشدات الكثيرة التي دونت بمضابط الشرطة، إلا إن حكومة المؤتمر الوطني لم تتحرك قيد أنملة بل اغلقت عينيها وعملت دي بطينة ودي بعجينة، مثل المرأة الحامل (أضان الحامل طرشة). ويبدو ان ما يحدث الآن هو عبارة عن تسوية بين الطرفين -المؤتمر الوطني وهذه المجموعات المتفلتة. فخيارات المؤتمر الوطني مع هذه المجموعة - بعد فقد مورد البترول - أصبحت محدودة، وتنحصر بين خيارين لا ثالث لهما. فأما أن يبحث المؤتمر الوطني عن موارد مالية جديدة ليستمر في الإغداق على هذه المجموعات، كما كان الحال في السابق (بس من نين) فهذا الخيار مستحيل. والخيار الثاني هو ان يترك المؤتمر الوطني هذه المجموعات وشأنها لتتكسب وتعيش بالطريقة التي تختارها وذلك عن طريق السلب والنهب والسطو المسلح. وبما أن الخيار الثاني هو اسهل وأقصر الطرق ولا يكلف المؤتمر الوطني أي شيء، بل العكس يستطيع المؤتمر الوطني من خلاله وخلال هذه المجموعات ضرب عدة عصافير بحجر واحد حيث فيه تمكين هذه المجموعات من تمويل نفسها بنفسها وبالتالي الإستمرار في سياسة اذلال وإرهاب المواطنين وكذلك إلجام أصحاب الرأي والكتاب وإخراس بعض الأصوات التي بدأ يعلو صوتها قليلا هذه الأيام، بعد أن ظل خافتاً طيلة فترة حكم المؤتمر الوطني. وإلا فكيف للمؤتمر الوطني الذي يستطيع تجييش شوارع العاصمة بكل أصناف القطاعات العسكرية المدججة بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة وفي لمح البصر، للتصدي لأناس عزل، لمجرد أن قاموا بالتعبير السلمي عن رفضهم لمحاولة إغلاق ونقل مستشفى إبن عوف المرجعي للأطفال. فكيف لهذه الحكومة بكل جبروتها وعتادها أن تعجز عن حسم هذه العصابات المتفلتة، والتي يطلق عليها زورا وبهتانا عصابات النيغرس؟ ألا يبدو الأمرفيه الكثير من الغرابة؟ إذا ياجماعة علينا تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية ولنقل المجموعات الأمنية المسرحة أو المهملة أو التي فقدت الدعم المادي، وليس "عصابات النغرس" والتي أعتقد ان هذه التسمية نفسها سربت للإعلام من قبل هذه المجموعات الأمنية. فحالة هذه المجموعات تشبه تماما حالة قوات أمن ومخابرات الإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا السابقة بعد تفككها.