أليست مفارقة صارخة أن يكون بعض القادة العرب الأكثر إلحاحاً على الاستقلال والنأي بأنفسهم عن الارتهان الدولي هم الأسباب، أو على الأقل الذرائع للتدخلات الأجنبية في شجون بلادهم؟ فالشأن العربي الآن هو شجن بامتياز . لقد تكرر المشهد مراراً، ويبدو أنه ما من سبيل للتدارك قبل فوات الأوان . فالاستقلال كمنجز قومي وتاريخي له أدبياته وثقافته وهو أكثر من مجرد نشيد وعلم وشعار . أليس من حق العرب الآن أن يؤولوا المثل الموروث القائل “على نفسها جنت براقش" بحيث يشمل السياسة أيضاً؟ وحين تتعارض الأطروحات المعلنة مع أساليب التعبير عنها والدفاع عنها فإن الخلل يصبح بنيوياً، ويتعذر معه وقف النزيف، سواء كان من دم ودمع أو من زيت وغاز . نعرف أن رواية التدخل العسكري من أجل الإنقاذ ليست تلبية إنسانية صافية لاستغاثة المنكوبين، سواء من الطبيعة كما حدث في هايتي، أو من التاريخ كما حدث في العراق وقبله وبعده أيضاً، فالقوة الإمبراطورية المدججة بأحدث الأسلحة وبشهوة التمدد والامتصاص ليست المعتصم الذي يلبي النداء، كما حدث في معركة عمورية التي خلّدها في ذاكرتنا العربية أبوتمام . إن عالمنا العربي بمختلف نظمه وأساليب الحكم فيه ليس السبعين فرقة المتناحرة لأن واحدة منها فقط سوف تنجو من النار، لكن المؤسف أن هذه اللحظات الحرجة والعسيرة تفتضح ما تحت السطح الرخامي وهو سخام أو دون ذلك، لأن العودة إلى مرجعيات ما قبل الدولة وما قبل هذا العصر واستدعاء الاحتياطيات الرعوية هي بمثابة سباحة يائسة ومضادة للتيار، فعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء إلا إذا عبثت بمسنناتها يد شيطانية أدت إلى خلق قوانين معكوسة للنمو، وتجديد صلاحية البائد أو شبه البائد بأن تضاف إليه مساحيق تجميل أو أقنعة مضللة . وأي كلام أو سجال يدار الآن حول التدخل العسكري في أقطار عربية من أجل الإغاثة أو الإنقاذ يجب ألا يكون أشباه جمل سياسية، بحيث يترك الخبر بلا مبتدأ أو العكس، أو يكون منهجه الناقص على طريقة لا تقربوا الصلاة، أو ويل للمصلين . فالتدخل العسكري في مصر عام 1882 كان بذريعة فواتير خديوية، ثم تتابع ليشمل الوطن العربي كله تحت مختلف الذرائع، لكن الطبعات الجديدة والمنقحة من هذا التدخل جددت الذرائع، وأصبحت الديمقراطية وحقوق الإنسان هي الحق الذي تراد به جملة من الأباطيل دفعة واحدة . بقي أن نقول، إن المفارقة ذاتها تتكرر ويصبح القادة الأكثر زعماً بالوحدة والاستقلال أسباباً مباشرة أو غير مباشرة لفقدان الوحدة والاستقلال معاً . المصدر: الخليج 3/3/2011