عاد المصريون إلى ميدان التحرير، يحتشدون هذه المرة من أجل «إنقاذ الثورة» التي احتفلوا بانتصارها قبل أقل من شهرين!! وليس المهم أن الدعوة للتظاهر في ميدان التحرير تأتي بعد إصدار «حكومة الثورة!» لقانون تجريم التظاهرات.. فالقانون كما أكدت الحكومة لا يمس الحق الأصيل في التظاهر، ولكنه يتصدى للتخريب ومحاولات تعطيل العمل في مرافق الدولة ومؤسساتها. المهم هو أن الاحتشاد في ميدان التحرير هذه المرة، يعكس مخاوف حقيقية على الثورة.. من شباب أطلقوا شعلة الثورة ويجدون أنفسهم الآن بعيدين عن المشهد السياسي، ومن قوى سياسية ترى فلول النظام السابق تنظم صفوفها وتحاول تعطيل مسيرة الثورة بكل طريقة، ومن جماهير تفزعها محاولة اختطاف الثورة من جانب قوى بعضها شارك في الثورة وبعضها لم يفعل.. ولكنها تملك التنظيم والمال، وسلاح الطائفية الذي كان اختفاؤه أثناء أحداث الثورة أحد أهم منجزاتها. وقد تكون جمعة «إنقاذ الثورة» في جانب منها، محاولة لرأب الصدع في قوى الثورة، بعدما حدث في الاستفتاء على التعديلات الدستورية والذي لم يكن له مبرر حقيقي، ولكنه أظهر انقساما كبيرا في صفوف القوى التي قامت بالثورة أو ساندتها، وزاد الأمر سوءا ما حدث من خلط بين السياسة والدين بالصورة التي تم بها.. ورغم الجهود التي بذلتها جماعة الإخوان المسلمين لإزالة المخاوف، فإن تصرفات غيرها من القوى المتشددة في الشارع، تعيد إلى الأذهان ذكريات كئيبة من الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حين كان الصبية الذين لا يفهمون شيئا في أمور الدين أو الدنيا، ينصبون أنفسهم لإمارات في صعيد مصر، وحين كان أحد أكبر أحياء القاهرة يحكمه طبّال تائب!! شركاء الثورة من الليبراليين والقوميين واليساريين والإسلاميين المعتدلين، يحاولون تجاوز الانقسامات التي تتزايد مع انفتاح الباب لإنشاء الأحزاب الجديدة بعد إلغاء القيود عليها. ويلتقي الجميع من أجل «إنقاذ الثورة»، مطالبين بسرعة ضرب بقايا النظام السابق، ومحاكمة رموزه، وحل الحزب الوطني، وتطهير الإعلام الرسمي، واستعادة الأموال المنهوبة، والمضي في خطوات استكمال مسيرة الثورة بوتيرة أسرع مما يحدث حتى الآن. والحكومة تشكو بلسان رئيسها من مخططات الثورة المضادة، وتعلن أنها ستحارب الفساد إلى النهاية، ولا أظن أن لديها أي مانع من الانضمام لثوار التحرير في مطالبهم التي قد تساعدها في تحقيق الهدفين الأساسيين اللذين تسعى لهما الآن، وهما: استعادة الأمن الغائب، وهي قضية تزداد إلحاحا في ضوء التحدي الجديد للجماعات المتشددة، ثم دوران عجلة الإنتاج التي تأثرت بشدة بفعل أحداث الثورة، ثم بفعل الاحتجاجات الفئوية التي يبدو بعضها مبررا، ولكن الكثير منها مدبر من قوى تريد استنزاف جهد الحكومة وتعطيل مسيرة الثورة. والمأزق الحقيقي في ما تمر به مصر الآن، هو أن الثورة أعلنت انتصارها في 11 فبراير، دون أن تستولي على الحكم! وأن القوات المسلحة التي تتولى المسؤولية في الفترة الانتقالية، والتي كان لها دور أساسي في سقوط الرئيس السابق، تتولى الحكم بمنطق الإصلاح لا بمنطق الثورة. وهي تؤكد على عزمها إنهاء الفترة الانتقالية بأسرع ما يمكنها، وبالتالي تضع نفسها وقوى الثورة والحكومة في موقف صعب.. فهي من ناحية تبطئ في تصفية بقايا النظام السابق أو في تغيير سياساته الأساسية، لأنها لا تملك البديل ولم تكن قد هيأت نفسها لهذا الموقف الذي وجدت نفسها فيه بعد الثورة. وهي من ناحية أخرى، تريد وهي تسرع خطواتها لإنهاء الفترة الانتقالية، أن تدير الصراعات بين الأطراف المختلفة، بشيء كبير من الحياد الذي يضمن لها أن تنهي مهمتها كما بدأتها وهي موضع إجماع من الأمة على تقديرها واحترامها. إنها تريد أن تلعب دور الحكَم لا الحاكم، وهذا ممكن حين تكون الأوضاع مستقرة، أما في زمن الثورة فالأمر يختلف. وهي عندما تخلت عن الرئيس السابق ورفضت استخدام القوة ضد الشعب، ومنحت ملايين المتظاهرين حمايتها وأعلنت مشروعية مطالبهم.. حين فعلت ذلك أصبحت طرفا في الصراع وشريكا في الثورة. وحين تتولى المسؤولية فعليها أن تترجم هذه الشراكة إلى قرارات حاسمة وسريعة، تضرب بها بقايا النظام السابق وتوقف تحركات الثورة المضادة. وعليها أن تدير الصراعات في الفترة الانتقالية بما يمكن من تحقيق أهداف الثورة، ويؤسس للنظام الجديد الذي يحقق طموحات الشعب للعدل والحرية، ويعيد لمصر مكانتها ودورها الذي افتقدته الأمة طويلا. ومن دون ذلك سوف يستمر التهديد للثورة، وسوف تفتقد قوة الدفع التي جمعت المصريين جميعا حولها. وربما تنجح القيادة العسكرية بهذا الأسلوب في الوصول إلى النهاية التي تريدها للمرحلة الانتقالية، ولكنها إذا وصلت دون أن يصل معها قطار الثورة إلى محطة الأمان، فسوف تجد نفسها في وقت أقرب مما تتصور، مضطرة للعودة لاستكمال المهمة بتكلفة أكبر بكثير.. لها وللثورة، وللشعب الذي انفتحت أمامه أبواب التغيير ولن يقبل بإغلاقهامن جديد. المصدر: البيان 3/4/2011