الجدل الدائر في أميركا منذ مقتل أسامة بن لادن، جدل أميركي بامتياز، فهو جدل لا يمكن أن يحدث إلا في الولاياتالمتحدة الأميركية. ما لفت انتباهي في الضجة التي أحدثها الإعلان عن قتل ابن لادن، هو تجدد النقاش حول «جدوى وضرورة» تعذيب المعتقلين للحصول على المعلومات. فقد انطلق فريق بوش وأنصاره، خصوصاً المحافظون الجدد، يزعمون أن قتل ابن لادن يمثل إنصافاً لبوش وسياسته التي أصرت على تعذيب المعتقلين، في غوانتانامو وغيره من السجون السرية للمخابرات الأميركية. فلولا ذلك التعذيب، لما حصلت أميركا على المعلومات التي قادتها إلى مكان ابن لادن ومكنتها من قتله. وبغض النظر عن لاأخلاقية ما يقولونه وتعارضه مع القانون الدولي، بل والقانون الأميركي نفسه، فإن المعلومات التي يقصدها هؤلاء تم الحصول عليها في 2007، الأمر الذي يعني أنها لم تكن تجدي وحدها للوصول لابن لادن، فضلاً عن أنه وهو الأهم لا يوجد دليل واحد على أن تلك المعلومات نفسها كان من المستحيل الحصول عليها دون تعذيب. والجدير بالذكر أن أولئك الذين يثنون على من ارتكبوا جرائم التعذيب ومن أمروا بها، هم أنفسهم الذين صدعوا رؤوسنا في عهد بوش بضرورة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي. وهم أنفسهم الذين برروا غزو العراق، بأن صدام حسين استخدم الأسلحة الكيميائية ضد أبناء وطنه، هذا رغم أن تلك الجريمة حدثت في الثمانينات على مسمع ومرأى من أميركا، ولم يعترض أحد وقتها في واشنطن! ما يلفت الانتباه أيضاً في الجدل الدائر حول مقتل ابن لادن، هو أن القليلين فقط هم الذين تحفظوا على قتله بدلاً من اعتقاله وتقديمه للمحاكمة. وهو التحفظ الذي كان يتم التعبير عنه على استحياء، إلى أن اتضح أن ابن لادن لم يكن يحمل سلاحاً حين تم القبض عليه. وما يثير القلق من هذا الموقف، هو أن قتل ابن لادن كان قد جاء بعد أيام قليلة من الغارة التي قصفت مقراً للقذافي بهدف اغتياله، فنجا هو بينما قتل أحد أبنائه وثلاثة من أحفاده، وهو الأمر الذي لم يلق اعتراضاً ولا حتى اهتماماً يذكر في أميركا. وتزامن الحدثين وخفوت الأصوات الرافضة، يمثل مؤشراً خطيراً، معناه أن الولاياتالمتحدة قد عادت بكامل قوتها إلى تبني الاغتيالات السياسية علناً. فبعد أن تشكلت في السبعينات لجنة في الكونغرس عرفت باسم «لجنة تشيرش»، قامت بالتحقيق في التجاوزات الخطيرة لأجهزة الأمن والمخابرات في عهد نيكسون، قام الكونغرس بحظر الاغتيالات السياسية للمسؤولين الأجانب. ففي ذلك الوقت كانت الاغتيالات السياسية قد أصبحت من الأساليب التي تلجأ لها المخابرات الأميركية بانتظام، لتصفية خلافات أميركا الدولية، فهي قامت في ذلك الوقت بسلسلة من العمليات التي استهدفت زعماء أجانب وشخصيات دولية بارزة. فمن العمليات الناجحة، كانت تلك التي تم فيها اغتيال الرئيس باتريس لومومبا والمناضل اليسارى تشي غيفارا، بينما فشلت في عدد آخر من المحاولات، منها ثلاث استهدفت فيدل كاسترو. وما يلفت الانتباه أيضاً في الجدل الدائر الآن، أن أحداً لا يعرف بالضبط حقيقة ما حدث في واقعة قتل ابن لادن، فهناك تضارب في المعلومات والتقارير. ورغم ذلك فإن هذا لم يزعج أحداً، ولا أفسد فرحة الأميركيين بالتخلص من ابن لادن. وهو أيضاً مشهد أميركي بامتياز. ومتابعة التحليل السياسي اليوم بشأن ابن لادن، توضح بجلاء أن هناك درجة عالية من الشخصنة للحدث كله. فالكثير من «المحللين» العسكريين والسياسيين، يربطون مستقبل القاعدة وما يسمى الحرب على الإرهاب، بل ومستقبل أميركا، بوجود أو غياب شخص واحد هو ابن لادن. وتلك أيضاً خاصية أميركية معروفة. فإذا تابعت، عزيزي القارئ، كل معركة خاضتها أميركا، ستجدها تقوم دوماً بشخصنة العدو وشيطنته. فالعراق تم اختزاله في شيطان يدعى صدام حسين، والصراع مع إيران صار أيضاً مع شيطان آخر هو أحمدي نجاد، وفيدل كاسترو هو الشيطان الذي تحاربه أميركا في كوبا منذ عقود، وتشافيز هو جوهر المشكلة في فنزويلا. والضيق بالتفاصيل والميل للشخصنة، هما بعض تجليات الثقافة السياسية الأميركية، التي تضرب بجذورها في التاريخ الأميركي. فالمهاجرون الأوائل كانوا من البيوريتانيين، الذين تركوا انجلترا هرباً من اضطهادهم دينياً، وسعوا لإقامة «مملكة الله» في أميركا. وهم رأوا أن نجاحهم في ذلك سوف يكون دليلاً لكل الناس في العالم، على أن الله يؤجر عباده المؤمنين. وقد أرسى ذلك الطابع الرسالي في الثقافة السياسية الأميركية، ومن هنا تأتي جذور النظرة الحدية في أميركا، التي تقوم على الأبيض والأسود، أو الخير والشر، معنا أو ضدنا، والتي تظهر حينما تكون أميركا في معركة مع الآخر، أي آخر. وهذه النظرة المغالية في تبسيط ما يجري في العالم، باعتباره صراعاً بين شر مطلق وخير مطلق، هي المسؤولة عن الضيق بالتفاصيل. فلأن الشر واضح والخير واضح، فإن التفاصيل ليست مهمة على الإطلاق. وهذه الثقافة السياسية، هي أيضاً المسؤولة عن اختزال المعارك في شخص يتحول لشيطان. وهي المسؤولة أيضاً عن عدم ممانعة الأميركيين في «قتل» عدوهم أو تعذيبه، لأنه يمثل «الشر المطلق». ولا يمكن في الواقع المهادنة أو التعامل مع الشر، وإنما لا بد من القضاء عليه، وإلا قضى على أميركا التي هي هنا «الخير المطلق». وهذه الثقافة السياسية، تتيح في الواقع للحكومات الأميركية المتعاقبة بزعم أنها تحارب الشر أن تستخدم خطاباً سياسياً لا يثير أجراس الإنذار عند الكثير من الأميركيين. فهو لا يكون له الوقع نفسه على شعوب أخرى، قد تجد فيه خطاباً صادماً لا يمكن قبوله. المصدر: البيان 11/5/2011