سعيد جداً أن تجاورني في صحيفة (الرأي العام) عزيزة بنت أخ عزيز: الكاتبة السيدة رباح الصادق المهدي. ومشاركتها في هذا الصرح الصحفي العتيد كسب للقراء ولهذه الصحيفة الرائدة، يؤكد إستقلاليتها ومصداقيتها وإنفتاحها على كل الآراء حتى وإن خالفت رؤاها، ما التزم الكاتب بنهج الصحيفة بالخط الوطني وأدب المناقشة والحوار. فقد اتسم مقال السيدة رباح الأخير «أبيي: صحوتنا أو غضبتنا، وقبل الغضب» بما اتسمت به هذه الصحيفة منذ عهد منشئها رحمة الله عليه بالإتزان والرزانة والبُعد عن الشطط والشخصانية والإسفاف. وقد شاءت لها إرادتها أن تقتحم موضوعاً خطيراً شائكاً يكتسب قدراً كبيراً من الضبابية، وشيئاً من التهرب لدى المعارضة الحزبية الشمالية. فالمعارضة لا ترى في أبيي أو النيل الأزرق أو جنوب كردفان، كما لا ترى في أي تصرف أو سلوك يصدر من جهة حكومية أو معارضة أو جهة محلية أو أجنبية إلاّ بمقدار قُربه أو بُعده من تحقيق هدف إزالة النظام وإفساح المجال لها لتتربع على كراسي الحكم. فكل ما يمر بالسودان من أحداث وتنشأ فيه من صراعات لا يحكم عليها كأحداث مستقلة لها أسبابها وتحتاج إلى أحكام مستقلة. والمتابع لممارسات المعارضة وقادتها لا يضع يده على موقف واضح من أي منها، إذ تنصرف الى تعميمات تدور وتلف لتصل إلى حقيقة واحدة أن الأمر في النهاية يتشكل من أخطاء النظام القائم الذي يجب إزالته: أبيي؟ من يملك الحق فيها، المسيرية أم دينكا نقوك؟ وما هو الحل الذي يكفل العدالة للجانبين؟ النيل الأزرق؟ هل يحق للحركة الشعبية أن تكون طرفاً في حكمها وبقاء جيشها وتهديد واليها باحتلال الخرطوم، وجنوب كردفان؟ هل يحق للحركة أن تلعب دوراً عسكرياً مباشراً أو عن طريق المجنّدين من النوبة، ومتمردي دارفور..؟ هل يحق للحركة الشعبية أن تساند تمردهم لضرب الشمال وإستقراره؟ هذه وأسئلة كثيرة لا تعني المعارضة الشمالية بالرد عليها لأن القضية الرئيسية عندها هي بقاء الحكم وزواله ولا شئ آخر. وليس غريباً في إطار هذه الضبابية المعتمة أن يكون تعريف الكاتبة لأبيي غارقاً في رومانسية تقطر عسلاً تضيع معه ملامح أبيي البسيطة ذات الأكواخ الفقيرة المبعثرة. فهي تحدثك عن أبيي لا وجود لها: «لأبيي ذاكرة خصبة، تغشتها اليوم المرارة. وحجم أبيي كوطن أكبر من تلك الر قعة الصغيرة إذا قيست بمساحتها. فتراجيديا أبيي تمتد لتشمل قارة بأكملها، بل كل كوكب الأرض في منعطفات الصراع». السياسة لا تَتَحَدّث بهذه اللغة ولا تفهمها. هي فن التعامل مع الواقع وإيجاد الحلول لها وهذه الصورة الهلامية لأبيي لا ترشحها لأي حل. هي مجرد صورة إنشائية لا صلة لها بالواقع. أبيي مجرد قرية صغيرة بسيطة بساطة سكانها لا تزال في المدارج الأولى في تكوينها الحضاري. وهي متنازعة بين قبيلتين إنفرط عقد المواثقة بينهما بسبب سياسات داخلية وتدخل أجنبي. وذلك يحتاج إلى تحديد صاحب الحق. وإعطاء كل ذي حق حقه: الحكومة كما المعارضة عليها أن تقوم بمهمة الحكم والتصدي للمعالجة. أما الحكومة فموقفها معروفٌ ومشهودٌ في مواجهة قوى داخلية وخارجية عاتية فأين تقف المعارضة..؟ السيدة رباح لم تقصِّر: درست الموضوع علمياً وتاريخياً وخرجت بنتيجة واضحة ومؤكدة بأسانيد علمية حق المسيرية. وانهم كانوا السابقين في المنطقة منذ القرن الثامن عشر ثم جاء دينكا نقوك في القرنين التاسع عشر والعشرين غرباء نازحين فاستضافتهم المسيرية ثم تحوّلوا إلى مشاركين في السكن بموجب ميثاق الإخوة بين الطرفين. فلما استتب للدينكا المقام، وآنسوا تحيزاً أجنبياً إلى جانبهم فكروا في إقصاء أصحاب الأرض الأصليين والإستيلاء على المنطقة وحرمان أهلها من الأرض والمرعى والحياة. وهنا توقفت الكاتبة. فتقرير الحقيقة يستلزم الوقوف إلى جانبها ولكنها لم تدع إلى شئ من ذلك بل خرجت إلى الموضوع الأثير لدى المعارضة تكيل اللوم والتهم للحزب الحاكم وانتهت إلى الحل الأكبر الذي هو الحل لكل شئ عند المعارضة بقولها: «لكن طالما كان المؤتمر الوطني على رأسنا فستكتب علينا أيام سوداء». المعارضة والمتحدثون عنها والعائشون في كنفها لا يهمهم مصير المسيرية ولا أهل دارفور ولا ضياع النيل الأزرق وجنوب كردفان. يهمهم فقط زوال هذا الحكم حتى ولو كان بيد الشيطان. نقلا عن صحيفة الراي العام السودانية 14/6/2011م