مؤخراً بدأت تبرز على الساحة العربية بوضوح ظاهر (إن لم نقل بوضوح صاخب) مؤشرات مقلقة وخطيرة، تؤكد بالملموس أن الولاياتالمتحدة الأميركية، تعمل بكد غير عادي من أجل مصادرة حراك الشارع العربي.. وبرغم الصخب الكبير والهائل الذي يجتاح دول المنطقة وشعوبها تبرز أطماع ومواقف الدول الأوروبية اليوم على حقيقتها العارية حتى من دون ورقة التوت. فالإدارة الأميركية، ومعها القوى الفاعلة في الاتحاد الأوروبي التابع، منحازة بالكامل إلى جانب الكيان الإسرائيلي، وأبعد من ذلك، فهي باتت لا تقيم وزناً للقيادات العربية، بل تحاول بوقاحة قلّ نظيرها، العمل من أجل ركوب موجة الانتفاضات العربية لتعطي لنفسها صفة المنقذ ممن ساهمت هي في صنع بعضهم في وقت سابق! وهناك دول كبرى كروسيا الاتحادية والصين تحاول اعتماد أسلوب الممانعة في مجلس الأمن وترفض التدخل العسكري الأميركي في ليبيا واليمن أو في سورية وترفض تدابير حلف (ناتو) العسكرية التي تجاوزت كثيراً بنود القرار الدولي الخاص بليبيا، وهي من دون شك تنتظر بفارغ الصبر اللحظة المواتية لتجديد دورها في المنطقة لمنع تفرد الأميركيين والأوروبيين بالتحكم بمصائر البلاد والعباد في هذه المنطقة الاستراتيجية. لذلك تبدو نقاط خلاف كثيرة في مواقف تلك القوى، حيث يصعب الوصول إلى حل دائم وشامل للصراع المزمن بين العرب والمحتل الإسرائيلي الذي يتلطى وراء منظومة لا حدّ لها من المواقف الأميركية والأوروبية الداعمة في شتى المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية، فالولاياتالمتحدة والدول الأوروبية المساندة لها تخطط من أجل شرق أوسط جديد تلعب فيه إسرائيل دوراً محورياً مركزياً، في حين ترفض روسيا والصين تغليب مصلحة إسرائيل على مصالح الشعوب العربية، وترى ذلك حلاً مشبوهاً وفاشلاً لا يخدم إلا الاستراتيجية الأميركية ويزيد من حدة الصراع الإقليمي والدولي في هذه المنطقة. وفي المقلب الآخر، فإن الإدارة الأميركية تؤيد مخططات إسرائيل وما تسميه قلقها من مخاطر دولتين تتنازعان على أرض واحدة.. ولا مجال في نظر عتاة الحركة الصهيونية للمساومة على لاءات إسرائيل المعروفة وتالياً، فإن المطلوب من العرب هو تقديم المزيد من التنازلات المجانية لإسرائيل، وفق صيغة تلزم العرب بالدخول في مفاوضات عبثية إلى مالا نهاية وعلى قاعدة (المفاوضات للمفاوضات) حيث يضيع حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم على أرضهم. وهنا تكمن خطورة الخطاب الأميركي في محاولته استيعاب الانتفاضات الشبابية العربية التي أطاحت برموز سياسية كبيرة كانت موالية للولايات المتحدة وتعاونت بصورة معلنة أو مضمرة مع إسرائيل، فأيقظت هذه الثورات المتسارعة قلقاً أميركياً وإسرائيلياً متزايداً من مفاعيل صحوة عربية شاملة على مستقبل إسرائيل في منطقة ملتهبة. وجددت الولاياتالمتحدة التزامها الثابت بالدفاع عن أمن إسرائيل، وتقديم كل أشكال الدعم لها، وفوق كل ذلك تعهدت بتدمير البرنامج النووي الإيراني، بالرغم من أنه برنامج سلمي، ودعت إلى إطلاق حملة عربية ودولية لتجريد المنظمات العربية والإسلامية التي تؤمن بالكفاح المسلح ضد إسرائيل، وأعلنت صراحةً وقوفها ضد أيّ توجه فلسطيني نحو الأممالمتحدة من أجل الحصول على اعتراف دولي بقيام دولة فلسطينية مستقلة. في المقابل، تشكل وحدة الشعب العربي الفلسطيني ركيزة صلبة للرد العربي على استراتيجية إسرائيل بصفتها كياناً يهودياً، فبدأت القضية الفلسطينية تستعيد موقعها الجامع للفلسطينيين أولاً في زمن انتصار الثورات الشبابية العربية التي سرعان ما وصفها الأميركيون بالفوضى الخلاقة، وكرسّ اتفاق المصالحة في القاهرة بوجهها العربي الجديد عودة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الساحة الدولية كحركة تحرر وطني لها حق مشروع في ممارسة كل أشكال النضال لإلزام الكيان الإسرائيلي بالاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتشعر إسرائيل بمخاطر التوجه العربي الجديد والمتنامي، بعد تعطيلها مفاوضات السلام وإيصالها إلى طريق مسدود. من هنا، قامت باستنفار كل علاقاتها الدولية لإفشال المصالحة الفلسطينية، وإلزام السلطة الفلسطينية بما تريد هي، والقبول بإسرائيل كياناً لكل يهود العالم، والتخلي نهائياً عن حق العودة والقبول بتهويد القدس وبحق إسرائيل في بناء المزيد من المستوطنات.. وأضافت الإدارة الأميركية إلى الشروط الإسرائيلية شرط حق إسرائيل في الدفاع عن حدودها. وهناك مؤشرات واضحة تدل على أن الانتفاضات العربية وصلت الى مرحلة الخطر الشديد، حيث تزايدت الضغوط الأميركية لحماية إسرائيل التي تعيش حالة غليان غير مسبوق. وبالتأكيد، ليست إسرائيل في مأمن من تلك المتغيرات الكبيرة التي تعصف بهذه المنطقة. من هنا بالضبط، فإن الإدارة الأميركية تحاول استباق مسار الأحداث في المنطقة وخلق الفرصة المواتية لمحاولة امتطاء قطار الهبات الشعبية العربية، والسير به نحو السكة الآمنة أميركياً وإسرائيلياً، بل واستثمار ذلك لمصلحتهما. المصدر: تشرين السورية 20/7/2011