بمجرد سقوط نظامه، ودون الحاجة لجوليان أسانج رجل ويكيليكس المثير ووثائقه للجدل، أزاح ثوار بنغازي النقاب عن عدة وثائق، أبانت بجلاء ولع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي بدعم حركات التحرر وكيانات المعارضة في كل أصقاع البسيطة. دعم وإن كان مبرراً له في بعض الحالات فإنه في البقية لم يكن مفهوماً ولا تفسير له عدا نزعة العقيد النرجسية وبحثه الدؤوب عن أدوار مزعومة تتيح له تصوير ذاته كزعيم ثائر يسبغ على نفسه ? للمفارقة- ألقاباً من عينة (القائد الأممي، وملك ملوك إفريقيا، وأمير المؤمنين). تصرفات القذافي عموماً، لم تكن محكومة بسلك ناظم، أو مقيدة بقواعد سلوكية أو مراعية للأعراف الدبلوماسية ولذا كان من الطبيعي أن ينعت الرجل في بعض الأوساط ب (مجنون ليبيا). جنون أنعكس أثره بصورة مباشرة على عطايا القذافي المالية فهو قد يدعم بيمينه عاصمة ما، بينما يساره تدس السلاح في إيدي مناوئيها لإحراقها على ذات نسق إمبراطور روما، نيرون. وفي ذات خانة الجنون، بإمكاننا إدراج رؤوس المال الليبية في السودان، فليبيا الرسمية كانت على الأقل ظاهرياً مع السودان في مختلف حقبه الانقاذية، ووفقاً لذلك حقنت طرابلس الجسد السوداني باستثمارات من شاكلة برج الفاتح الذي يشق عنان سماء الخرطوم، ومشاركاتها في مشروعات زراعية محلية. هذا إلى جانب تقديمها خدمات من شاكلة طريق القائد الأممي الذي يشق منطقة الحاج يوسف، وقاعة القذافي الموجودة على أرض أشهر الجامعات السودانية (جامعة الخرطوم). في المقابل، يحتوي سفر القذافي الأسود مع الخرطوم على فصول كاملة متعلقة بدعمه اللا محدود للحركة الشعبية لتحرير السودان إلى أن شبت عن الطوق وكونت دولتها الخاصة، بجانب إفراده خيمته لتستظل في حماها الحركات الدارفورية المسلحة الرافضة للسلام، فضلاً عن محاولاته المستمرة لسرقة سلام دارفور بمناهضته بما أوتي من قوة ورباط خيل لمنبر الدوحة التفاوضي. ومعلوم أن مخاوف القذافي من الخرطوم لم تكن وليدة العقدين الأخيرين، فهو ومنذ نعومة أظافره في السلطة يتوجس خيفة من الرياح الجنوبية الشرقية الهابة من السودان، فهو يعرف تماماً أن الخرطوم قادرة على إنتزاعه كما فعلت بحسين هبري الذي أوصلته لحكم تشاد ثم ما لبثت أن نزعته لصالح الرئيس إدريس ديبي، أو بهيلاسلاسي الذي نحته عن عرش إثيوبيا. أما أكثر ما كان يخافه القذافي، فكان إمكانية تكرار سيناريو إقتحام باب العزيزية من قبل معارضيه ممن فتحت لهم الخرطوم أذرعها كما حدث في العام 1985م. وهو ما يفسر أدارة الجماهيرية ظهرها لمختلف حكومات الخرطوم، بل ومحاولات حشرها للأخيرة في خانة المدافعة عبر سعي طرابلس الدؤوب لضرب السودانيين بعضهم بعضا وفقاً لسياسة المستعمر الشهيرة (فرق تسد) ووفقاً لدعاء الطريقة الختمية ذائع الصيت (وأشغل أعدائي بأنفسهم). أما عن أكثر الفترات التي شهدت إستقراراً مشوباً بالحذر في علاقات السودان وليبيا، فكانت فترة الديمقراطية الثالثة، فخرطوم ما بعد الانتفاضة كانت تحفظ بشىء من الود، توفير طرابلس ملاذات آمنة للجبهة الوطنية المناهضة لحكم جعفر نميري (سلاح، معسكرات، دعم مالي وسياسي، ومنصة إعلامية). وتشير كتابات تلك المرحلة لتمويل القذافي بصورة شبه كاملة لعملية العقيد محمد نور سعد خلال العام 1976م. وتلزمنا الإشارة هنا إلى أن المعارضة الليبية حزمت حقائبها وغادرت السودان بمجرد تسنم قادة الجبهة الوطنية الحكم في الخرطوم. غير أن شهودا على تلك الفترة منهم العميد (م) عبد الرحمن فرح مدير جهاز الأمن في حقبة الديمقراطية الثالثة قالوا ل (الرأي العام) بأن الضعف الذي إعترى مفاصل حكومة ما بعد الانتفاضة حال دون إتخاذ الخرطوم لمواقف صارمة ضد القذافي الذي أظهر غضبه عدة مرات من تغافل حكومة الصادق المهدي لطلباته المكرورة بضرورة دخول البلدين في عملية وحدة؛ ما حدا بالعاصمة السودانية وقتها لإعمال العقل بصورة تمكنها من غل يد القذافي المبسوطة كل البسط لدعم التمرد في الجنوب، مع إمضاء اتفاقية (جنتلمان) معه للحد من تحركات حركة اللجان الثورية التي أقدمت بحسب فرح على إغتيال دبلوماسي أمريكي فيما عرف بأحداث العمارات شارع (1). وعن بداية حملة القذافي ضد الخرطوم، نجدها إنطلقت بتوقيع النميري إتفاقية تلزم الخرطوم بعدم التدخل في الشأن الداخلي لدول جواره مطلع السبعينيات وهو ما قابله القذافي بامتعاض شديد ما لبث أن تحول لعداء سافر حين رفض السودان مرور طائرات عسكرية ليبية متجهة للمشاركة في قصف دولة جارة لإجوائه. ونتيجة لذلك الموقف فتح القذافي حدوده وخزائنه لقادة الجبهة الوطنية وعمل بمعيتهم لإسقاط نظام النميري فكان هجوم محمد نور سعد إلى جانب عدد من المخططات التخريبية المدعومة من ليبيا مثل قصف طائرة ليبية مباني أذاعة هنا أم درمان خلال العام 1984م. القذافي لم يكتف بذلك الدعم، إذ بمجرد خروج العقيد جون قرنق على الخرطوم العام 1983م، أقدم على دعم الجيش الشعبي مالياً ولوجستياً، حتى تتسنى له القدرة على مجابهة حكومة السودان المركزية. ومن يومها لم ينقطع دعم القذافي للحركة الشعبية حيث يتذكر الكثيرون أعلان الرجل استعداده للإعتراف بدولة الجنوب متى قرر الإقليم الجنوبي للسودان الانفصال وذلك في وقت كان يبحث فيه الجميع عن الوحدة، ما يبين وجود علاقات بينية متينة مؤسسة بالطبع على المال الليبي بين كلٍ من القذافي والحركة. وفي السياق ذاته، لم يكتف القذافي بضخه الأموال في جيوب معارضي النميري وحدهم، إذ دعم النميري نفسه في قصفه لأنصار الأمام الهادي في الجزيرة أبا وحي ودنوباوي العريق العام 1970م وهو ما أشار له الإمام الصادق المهدي في خطبة سابقة بالقول ان دماء شهدائهم لم ترح هدراً، في إشارة منه لما ألمّ بالقذافي عقب ثورة الشعب الليبي عليه. أما الإنقاذ، فكانت أكثر النظم التي بذل القذافي الغالي والنفيس لزعزعة أركان حكمها، فقدم الدعم المباشر لحركات دارفور، وحرض قادتها ?تحديداً الميدانين- على عدم الإستجابة لنداءات وقف الحرب، ووفر لهم الملتجأ والأموال اللازمة لحرية الحركة كما وأتاح لهم فرص التدريب والمعسكرات، ومدهم بالأسلحة والتقنيات الحديثة، حد مهاجمة حركة العدل والمساواة للخرطوم فيما عرف بعملية (الذراع الطويل) في العام 2008م .وقد أكدت السلطات السودانية فيما بعد أنها أستولت على أسلحة وآليات تخص النظام الليبي ضمن ما خلفه جنود الحركة في معركة أم درمان. ولكوننا ذكرنا أمر دعم الحركة الشعبية عدة مرات، نتجه مباشرة لما كشفه موقع (إفريقيا اليوم) أخيراً، عن رصد عشر سيارات لاندكروزر محملة بالذهب وأودعت لدى تشاد، والشحنة عبارة عن مكافاة لجنود العدل والمساواة ممن إنحازوا إلى صف القذافي إبان أحداث الثورة الليبية التي أطاحت به. وفي محاولة لفهم كنه مواقف القذافي المالية والسياسية أتصلت (الرأي العام) بالفريق الفاتح الجيلي المصباح المدير السابق لجهاز الأمن والخبير الاستراتيجي، الذي أبان للصحيفة، أن جنون العظمة وحده من كان يسير القذافي لإتخاذ قراراته المربكة سواء تجاه الخرطوم أو غيرها من العواصم مستهجناً تحويل القذافي ليبيا قبلة للمعارضين، ممن كان يغدق عليهم أموال الشعب الليبي برعونة ودون وجه حق، وكيفما أتفق. على كلٍ، فإن رحيل القذافي، كان بمثابة إلقاء الخرطوم عن كاهلها لحمل ثقيل رزح على صدرها عدة عقود، حمل يصعب تقديره بالضبط فهو يشمل أرصدة تقدر بمليارات الدولارات، وحقائب مليئة بالعملات، وعربات محملة بالذهب، وما خفي كان أعظم. نقلا عن صحيفة الراي العام السودانية 11/9/2011م