من المقولات الأكثر إثارة للإحباط، التي تتردد منذ اختفاء الرئيس الليبي معمر لقذافي، أن ما خلفه في إفريقيا شيء جدير بالإشادة. والواقع أنه، شأن معظم سياسات القذافي، تضرب مبادراته بشأن القارة السمراء جذورها في تجريد مرتبك، وترويها مشاعر غضبه حيال الرفض الذي قوبل به كزعيم للعالم العربي. عندما فشل مشروع القذافي على المستوى العربي، تحول إلى الدول الإفريقية غير العربية، وانطلق للترويج لنفسه باعتباره زعيما عربيا عقد العزم على قيادة إفريقيا العاجزة، باعتباره "ملك الملوك". واستغل القذافي بخبث، التوتر التاريخي في بعض المراحل بين العرب والأفارقة، بالعزف على أوتار المشاعر، وانطلق قدما في التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية، مؤيدا بعض الجماعات المتمردة ومؤججا الصراع الداخلي، من دون الانطلاق من أي ولاء لقضية بعينها، وإنما دعما لأي طرف يتملقه أكثر. ولا يستحق أي من دوافع القذافي أو النتائج العملية لسياساته، هذه الإشادة بأي حال، فهو قد عمد إلى تشجيع الهجرة من الدول الإفريقية جنوب الصحراء، مثل تشاد والنيجر، إلى ليبيا في التسعينات، وداخل ليبيا نفسها عمد إلى تأجيج التوتر العرقي. وهؤلاء المهاجرون الأفارقة الفقراء والمنتزعون من جذورهم، تعرضوا للتلاعب بهم في ليبيا، وألقي اللوم عليهم في ارتفاع معدلات الجريمة والمرض والتوترات الاجتماعية. ولم يتم قط تدبر الوضعية القانونية لهم في ليبيا، الأمر الذي يعني أنهم لم يتم قبولهم أو استيعابهم في المجتمع الليبي. وقد عومل الكثير من هؤلاء المهاجرين بعد نشوب الانتفاضة ضد القذافي، باعتبارهم مرتزقة مؤيدين للنظام، الأمر الذي عرض للخطر كذلك بعض المواطنين الليبيين ذوي البشرة السمراء من الذين ينتمون إلى أصول عربية. وقد درج القذافي خلال عقد التسعينات بصفة خاصة، على الظهور عبر القنوات الفضائية بانتظام، ليتحدث مطولا عن مزايا ما كان يصفه بولائه لإفريقيا، ويفصل القول في رؤيته ل"الولاياتالمتحدة الإفريقية". وعلى الرغم من حماسه الكبير في هذا الشأن، إلا أن هذا التوجه لم يقابل بالارتياح أو التفهم في العديد من العواصم العربية. والآن، بعد انطلاق الربيع العربي وتهاوي العديد من الأنظمة الدكتاتورية العربية، فإن هناك فرصة نادرة لمواجهة التوترات المتعلقة بالعلاقات العربية - الإفريقية، وهي التوترات التي عمدت حكومات عربية إلى تنحيتها جانبا وتجاهلها تقريبا، أو إبداء اهتمام بسيط للغاية بها. وفي إطار هذه الفرصة المتاحة، يمكن التوصل إلى علاقات أكثر توازنا بين الدول العربية ونظيرتها الإفريقية. ولكن هل من الواقع أن نتوقع تفاعل شمال إفريقيا مع إفريقيا جنوب الصحراء؟ إن السؤال الذي يطرحه المراقبون هو: إذا كانت هناك عناصر مشتركة محدودة، فلماذا يتعين على دول شمال إفريقيا أن تتقارب مع نظيراتها جنوب الصحراء؟ الواقع أنه ليس هناك ما يمكن تعلمه من مهزلة العلاقات التي مد القذافي جسورها مع إفريقيا، باستثناء الكيفية التي لا ينبغي التعامل بها مع العلاقات بين الجانبين. ولكن في هذه "الولاياتالمتحدة الإفريقية"، على الرغم مما يبدو من سخافة التعبير، فإن هناك شيئا جوهريا يكمن فيها، ويتعين البحث عنه بمزيد من التعمق. إن توثيق التعاون بين الدول العربية وجاراتها الإفريقية، لا ينبغي تشجيعه لمجرد إحراز هدف سياسي أو تلميع صورة زعيم، وإنما ينبغي المضي به قدما لإيجاد ثقل مضاد للاستعمار، يقوم على أساس العناصر المشتركة التي يتعين تكريسها. وينبغي أن يقوم على أساس صحي، وكمؤشر إلى نضج حقيقي. المصدر: البيان 4/10/2011