ما الذي يجري داخل الولاياتالمتحدة الأميركية؟ وهل هي مجرد تظاهرات أم إرهاصات لاستحقاقات أكبر، تبدأ من القول بإعلان إفلاس النظام الرأسمالي وتصل إلى حد انفراط عقد الاتحاد الفيدرالي؟ وهل من علاقة بين ما يجري في شوارع نيويورك وبقية المدن الأميركية الكبرى، وبين تنبؤات جيرالد سيلانتي؟ أسئلة كثيرة بدأت تطرح نفسها على مائدة النقاش، بعد اتساع رقعة تظاهرات الشباب الأميركي الساعي إلى احتلال ميدان وول ستريت، شارع المال ورمز الرأسمالية الغربية الأشهر. ولعل قول الرئيس الأمريكي باراك أوباما هذه المرة كان من الصدق بمكان، فقد اعترف جهارا نهارا بأن ما يجري يعبر عن إحباط الشعب الأميركي من طريقة عمل النظام المالي. ما هو مستقبل ثورة وول ستريت؟ مؤكد أن لا أحد يستطيع الجزم، فالأمر أشبه بكرة الثلج، والغضب الأميركي يكسب أرضية أوسع يوما تلو الآخر، وخاصة مع تصاعد دعوات ممثلي النقابات والطلاب والمدرسين والعائلات والعاطلين عن العمل، الذين يعتبرون أنفسهم يمثلون 99% من الأميركيين، لاحتلال كافة عواصمالولايات الأميركية المختلفة بحلول نهار التاسع والعشرين من أكتوبر الجاري. غير أن استحقاقات أخرى تبدو مؤكدة في هذا المشهد، وفي مقدمتها الإقرار بأنه لم يعد هناك أحد داخل أميركا يخفي مقدار المأزق الامبراطوري والتراجع الواضح للعيان.. هل هذه تمنيات حاقدة كما يرى البعض، أم حقائق أرقام لا تكذب ولا تغش؟ إليك صورة أميركا اليوم كما رآها «نداف ايال»، الكاتب الإسرائيلي المقيم في واشنطن، وأشار إليها في عدد معاريف الإسرائيلية بتاريخ 18 أغسطس الفائت: «في الولاياتالمتحدة واحد من كل ستة أشخاص يستعين اليوم بقسائم الغذاء كي يعيش، سوق السكن عانى من هبوط بمعدل 30% وهو الأخطر، علامة التقدير التي يعطيها اتحاد المهندسين الأميركي للبنى التحتية في الدولة الهائلة هذه، والتي اخترعت البنى التحتية عمليا، هي D في سلم نهايته F». أما عن المديونية الأميركية فحدث ولا حرج، إذ جاوزت اليوم أكثر من 14 تريليون دولار، فقط في العقد الأخير، يسأل جورج بوش الابن عن أكثر من 6 تريليونات، منها تمثل 44% من كل الدين الأميركي، وكلينتون عن تريليون ونيف فقط، أما أوباما فخلق 2.4 تريليون في خطة تحفيز الاقتصاد الأميركي. هل تعني هذه الأرقام شيئا ما؟ تعني دون شك، أن الامبراطورية الأميركية تعيش مأزقها الأكبر عبر تاريخها القصير، وهو مأزق مشابه لما جرى للامبراطورية الرومانية على مشارف نهايتها، ويتمثل في واقع الأمر في ثلاثة محاور: أولها تردي المثل والقيم الأخلاقية، وثانيها تقهقر الحقوق المدنية السياسية في الوطن، وثالثها في نشوء قوة عسكرية مغرورة إلى حد الغطرسة، وتوسعها المفرط وتدخلها في بلدان أجنبية. هل ما يجري يؤكد تنبؤات «جيرالد سيلانتي»؟ يعد سيلانتي أحد علماء المستقبليات البارزين أميركيا، وصاحب قراءات لم تخب من قبل، إذ تنبأ بسقوط الاتحاد السوفييتي قبل انفراط عقده بعامين، وكذلك نجح في توقع انهيار سوق الأسهم في الولاياتالمتحدة عام 1987. ولعل ما يميز هذا الرجل، أنه ليس ضارب ودع أو منجما، فتنبؤاته تخضع لمعايير وأسس علمية، وهذا ما جعل الذعر يدب في قلوب الأميركيين. ما الذي يراه الرجل؟ يري سيلانتي أنه في المستقبل القريب جدا، ستقع ثورة داخل أميركا، ستقترن بأعمال شغب واسعة النطاق، واعتصامات وانتفاضات ضد الضرائب والبطالة والجوع. ويوضح أن الطعام وتوفيره، سيكونان الاهتمام الأول لدى الأميركيين. أما في ما يختص بالعملة الأميركية، فيرى أن الدولار سيفقد حتى حدود 90% من قيمته في المستقبل القريب المنظور، وستتدهور مبيعات محلات التجزئة. ما الذي يمكن أن يجعل من تنبؤات سيلانتي واقع حال فعليا؟ مؤكد أن الإنكار الأميركي المستمر لحالة الركود الراهنة، وعدم الاعتراف بالجذور الضاربة عميقا في المجتمع الأميركي لهذه الأزمة، هما اللذان دفعا شباب وول ستريت لاستشعار الخطر الآتي، والمتمثل في تضخم عدد الفقراء والمشردين، بوتيرة لم نشهد لها مثيلا من قبل، ما بات واضحا في صور الخيام المنتشرة في مدن أميركية عدة، بعد خسارة أصحابها لمنازلهم من جراء جشع القائمين على البنوك، وفي مجتمع الخيام هذا ستزداد الجريمة بفعل انتشار المخدرات. ولعل الاستحقاق القادم، وقد كثر الحديث عنه مؤخرا، هو ارتفاع أصوات الولايات الأميركية المنادية بالانسحاب من الاتحاد الذي يجمعها، لا سيما الولايات الغنية التي ترى أنها تتحمل تبعات وآلام الولايات الأفقر. هل من طريق لانتشال أميركا من أزمتها وإخماد ثورة «وول ستريت»؟ لا طريق سوى الهروب إلى الأمام، عبر حرب كبيرة، إقليمية على الأقل، تهدد سلام العالم، ويمكن أن يكون الشرق الأوسط موقعها وموضعها، للهرب من الركود والأزمة الخانقة التي تلاحقها.. غير أن هذا الخيار في حد ذاته قد يكون بمثابة الإعلان النهائي لوفاة الدولة العظمى، وظهور دويلات الفقر والتخلف الأميركية المتناثرة.. والعهدة هنا على الراوي «جيرالد سيلانتي». المصدر: البيان 13/10/2011