كان أقصي ما أسفر عنه لقاء الزعيمين – الترابي والمهدي – على مائدة أعدّتها حركة القوى الجديدة المعروفة إختصاراً ب(حق) فى تلك الظهيرة الخرطومية الباردة وقد تحلّق قادة اليسار وبعض من أشتات القوي السودانية حولهما، هو وقف التراشق الإعلامي بينهما. كان واضحاً أن الساعات التى إمتدت لنحو ثلاثة ساعات لم تكن كافية لرأب صدع الفُرقاء الاثنين دعك من رأب صدع الجوقة السياسية المصاحبة بأكملها. فإذا كان مجرد الاتفاق على وقف التلاسُن والتراشق الإعلامي يتطلب هذا القدر من الزمن، فيا تُري كم سوف يستغرق التوافق على أقل حد من أى برنامج سياسي صالح للإستخدام السياسي بين مكونات القوى المعارضة، وهى تبحث عن ربيع سوداني طال انتظاره! ولعل الأمر الأكثر مدعاة للتأمل فى هذا المنحي ان التراشق الإعلامي – ومهما كانت درجة حِدته – ما هو إلا إنعكاس لواقع سياسي ماثل بين المتراشقين، إذ أن الذى يتسبّب فى أن يحمل كل طرف كل أدواته الحادة ليُعمِلها فى جسد الآخر هى عناصر التنافر السياسي بكل عمقها وجذورها الضاربة فى تاريخ المتراشقين وما التراشُق إلاّ جانب واحد فقط ونَذر يسير من بقية العناصر . ففي الممارسة السياسية لا تخرج الألسن بتلك الغِلظة وتبادل الإتهامات بالكذب والإعداد لإنقلابات إلاّ إذا كانت القلوب والعقول على طرفيّ نقيض. وهنا تكمن أزمة المتراشقين من جهة والذين يحاولون (ربط الجرح لوقف النزيف) كما تقضي بذلك قواعد الإسعافات الأولية من جهة أخري ؛ لأن السؤال البديهي الذى سوف يترتب عقب توقف التراشقات هو ما هو برنامج هذه القوى، وكيف تستطيع أن تتابع (عملها) وقد توقفت الألسن - مؤقتاً - وإن لم تتوقف الخواطر، والتداعيات المكنونة داخل تلافيف العقول! إن من المؤكد أن الشيء الذى أحدث كل هذا الخلل أن هذه القوى المعارضة كانت قد (تواعدت) على خطة ما، شرع السيد الصادق المهدي لسبب أو آخر فى الكشف عنها، ذلك أن إستدراك السيد الصادق على مقولته التى قال فيها إن الشعبي أرسل له طلباً للمشاركة فى انقلاب عسكري وإن الصحيح – بحسب المهدي – أن الطلب قديم يعود الى ثمانينات القرن المنصرم وليس فى الوقت الحاضر، هذا الاستدراك – للأسف الشديد – لم يسعف المهدي ولم يكن موفقاً فيه لأن المهدي فى العام 1988 الذى زعم أنه عام الطلب الذى قدمه له الشعبي كان رئيساً للوزراء, ومن البديهي أن الانقلاب لا يتم عبر دعوة رئيس حكومة للمشاركة فيه! المهدي هنا خانه منطقه بدرجة مريعة وهو ما يُستشف منه أن (أطرافاً) أخري على صلة به من قوى المعارضة عتبت عليه (هذا الإفشاء) الضار بالجميع ولم تكن هنالك من طريقة (لإعادة إصلاح الزجاجة ولصقها) إلا بجمع الزعيمَين بأسرع فرصة وظهورهما بمظهر التوافق لكي يُفهم من ذلك أن ما جري بينهما لم يكن سوي تراشق أعلامي؛ أىّ كلام والسلام! إن أزمة قوى المعارضة دائماً – يميناً ويساراً – أنها تستهين الى حد الإستهتار بخصمها الوطني، فهذا الأخير -وبصرف النظر عن كل شيء- يتمتع بالقدر المطلوب من الذكاء والمهارة، فقد بقرَ بطن الشعبي بمهارة لإخراج الوثائق والأوراق والخُطط التى قضي الشعبي ليالٍ وأسابيع يعدِّها ويستعد لها وحين تبعثرت هذه المستندات التى يصعب التنصل منها صدرَ الضجيج العالي من الأطراف المعنية وسارع المهدي – حفاظاً على سيرته الديمقراطية – للتبرؤ من الواقعة كلها عبر ردِّها الى الجهة التى تقود العمل. من الواضح إن جهود قوى المعارضة حين إلتقت فى دار حق كانت منصبَّة على تغطية (القدح) بأى وسيلة وتظهر فى هذا الصدد أساليب زعيم الشعبي فى اختيار مشهد يثير الدهشة لتكون فى أحشائه الأهداف المنشودة، فقد انشغل الكل بالتساؤل عن أحقية حق فى رأب صدع بين زعيمين لا مجال لمقارنتهما – مهما كانت المعايير قد اختلت – بالوسيط الذى تكفل بالمهمّة الصعبة. كان هذا الإنشغال والصدمة الناتجة عن الحدث هى ما قصده زعيم الشعبي للمداراة على خطة الانقلاب والتغيير المسلح، ريثما يتم إجتراح خطط جديدة مبتكرة!