إن العلاقات بين جمهورية السودان ودولة الجنوب الوليدة الجديدة ما زالت متوترة رغم الانفصال الذي تم بعد عقود طويلة شهدت أطول حرب في إفريقيا سالت فيها الدماء أنهاراً وأُزهقت فيها أرواح كثيرة عزيزة وخلفت كثيراً من مآسي الجرحى والأيتام والأرامل واستنزفت موارد مالية ضخمة وعطّلت التنمية، ومهما يكن فإن الجوار الجغرافي سيظل قائماً بين الدولتين حتى يرث الله الأرض وما عليها. ولذلك لا يعقل أن تستمر هذه العداوات والتوترات في العلاقات إلى الأبد وينبغي أن تعترف كل دولة بخصوصية الدولة الأخرى وسيادتها ولكن مرارات الماضي وترسباته ما زالت تتحكم في الحاضر وتعكس عليه ظلالاً سوداء ونأمل أن يتم تجاوزها بالتدريج ليشهد البلدان جواراً آمناً، والمؤسف أن كثيراً من القضايا ما زالت معلقة بسبب عدم الحزم في حسم هذه القضايا إبان الفترة الانتقالية التي امتدت لستة أعوام كانت كافية لوضع الأمور في نصابها. ومن بين هذه القضايا المعلقة قضية حقوق الشمال من عائدات نفط الجنوب لقاء تكريره وتصفيته ومروره عبر الأنابيب الممتدة لمسافات طويلة تربو على الألف ومائة كيلو متر من مناطق الإنتاج حتى الميناء. ومنذ إعلان دولة الجنوب لم يأخذ الشمال من هذه المستحقات قرشاً واحداً وتراكمت ديون الشمال على الجنوب لأكثر من نصف عام ولعل حكومة الحركة الشعبية بالجنوب أرادت أن تتخذ مماطلتها التي تطاول أمدها وسيلة ضغط وابتزاز تساوم به في القضايا الأخرى وعلى رأسها قضية أبيي. وقد مدت حكومة السودان حبال الصبر طويلاً دون جدوى وأخيراً أعلنت أنها ستحجز كميات من النفط الجنوبي تساوي استحقاقاتها وفق تقديراتها وأعطت حكومة الجنوب مهلة كافية دون جدوى، وكعادته رد باقان بألفاظ غير مهذبة ووصف هذا التصرف بالقرصنة والسرقة وأخذت الفضائيات والإذاعات المتحاملة على السودان تردِّد ذات الكلمات المسيئة وهم يعلمون قبل غيرهم أن للسودان حقوقاً مغتصَبة وديوناً متراكمة عند حكومة الجنوب التي تعاملت معه ببرود واستخفاف ولعلها تتصرف هكذا تنفيذاً لتوجيهات وأوامر تأتيها من قوى الاستكبار والاستعمار التي تأتمر بأمرها ولا تعصيها.. وعندما بدأت حكومة السودان في تنفيذ ما صرحت به على الملأ أعلنت حكومة الجنوب أنها ستوقف ضخ البترول وأعلن الفنيون والخبراء المختصون أن إيقاف ضخ النفط سيؤثر سلباً على الأنابيب والمصافي. وفي هذا خسارة فادحة للطرفين المتشاكسين المتنافرين ولكن دولة الجنوب ستكون هي الخاسر الأكبر إذ ليس لها معبر آخر تصدر عن طريقه بترولها والخزينة العامة لدولتهم تعتمد اعتماداً رئيسياً على عائدات النفط وإذا توقف ضخه فإن الجنوب سيشهد كارثة اقتصادية إذ ستتوقف المرتبات والصرف على فصول الميزانية الأخرى ويؤدي هذا لندرة أو انعدام للمواد الغذائية التي تستوردها دولة الجنوب وتعم المجاعة الطاحنة كل أرجاء الجنوب ويؤدي هذا لاشتعال الحرب الأهلية على أوسع نطاق، ولذلك فإن إعلان إيقاف الضخ هو كذبة كبرى «ونفخة فاضية» وهم يدركون النتائج الكارثية الفورية ولن يقدموا على هذا التصرف الانتحاري الذي يكلفهم بالإضافة لما ذكرته آنفاً محاكمات دولية وغرامات وجزاءات دولارية مليارية لا قبل لهم بها إذ أن الشركات الصينية والماليزية ستقاضيهم. والأمل أن تتدخل الصين وماليزيا والوسطاء الذين يقودون المفاوضات مع الاستعانة بالخبراء العالميين ذوي التخصص في هذا المجال لحسم هذه القضية بأعجل ما تيسر بالتوافق على حلول عادلة ليأخذ كل طرف نصيبه بلا إبطاء أو تأخير. وإن هذه القضية لها ارتباط بالقضايا الأخرى وهي امتداد لحرب اقتصادية باردة بدأوا فيها منذ أيام تغيير العملة بمحاولتهم إغراق السودان بعملات كانوا يكدسونها هناك لتُحدث تضخماً رهيباً هنا ولكن محاولاتهم الخبيثة أُحبطت. وما انفكت مساعيهم تتواصل لإضعاف السودان مالياً ليجثو على ركبتيه. وهم يسعون لتنفيذ خطة متكاملة يجري الإعداد لها لإقامة معسكرات مثل التي بدارفور في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق لتسرح وتمرح المنظمات المشبوهة وتثرى بالحرام بدعوى جمع التبرعات والدعم الإنساني عينياً ومادياً بدعاوى كاذبة تمهد لها آلة إعلامية عالمية خبيثة مضللة وبعض العملاء الذين لا يرعون في وطنهم السودان إِلاً ولا ذمة. ويضاف لكل ذلك ما يُحاك ضد السودان في مجال المياه وقد طمأنت حكومة الجنوب النظام المصري الحاكم بأن حقوق مصر ستكون محفوظة كما هي ولن تخصم منهم شيئاً ولكنها أعلنت أنها ستأخذ نسبتها من الدولة الجارة التي كانت تجمعها بها وحدة وتريد أن تقتسم معها الورثة لاسيما وأن المياه تمر بها أولاً.. ومن جانب آخر فإن مشروع سد الألفية بإثيوبيا قد أوشك على الانتهاء ويجب النظر للأمن المائي السوداني بعيون يقظة ومد جسور التفاوض والتعاون مع دول المصب والممر للحفاظ على مصالح الوطن، وهذه التحديات التي تحيط بالسودان حزمة واحدة، والوضع يقتضي وحدة وطنية حقيقية وهو ليس بحاجة لحكومة ترضيات مترهلة ككرش الفيل ولكن كان على النظام أن يعجم عيدانه ويختار أقواها وأصلبها لاختيار حكومة عمالقة أقوياء خبراء مؤهلين صالحين ورعين، ونرجو أن تكون المذكرات للمعالجات الناجزة العاجلة لأن الظروف لا تسمح بالمطاولات والترف الذهني، ونرجو ألاّ يكون هدف البعض منها هو تهيئة الأجواء لخوض معارك حول المواقع القيادية ودعونا في المهم وجراحات الوطن تحتاج لمعالجات لا لمناكفات ومنافسات بين الأنداد والوطن ملك للجميع لا ضيعة يتعاركون فيها وحدهم!! نقلا عن صحيفة الانتباهة السودانية 25/1/2012م