توجد مبررات ودوافع قوية للترقب والخشية والحذر من "أجندة جوبا" ضد "الخرطوم" ، لأن تداعيات الانفصال وحسبما أظهرت السياسات والوقائع والقرارات بوضوح، أن جوبا تفتقر لخبرة ودراية وتعامل الدولة الراشدة المتعقلة، بدليل العداء الصارخ المصحوب بدق الطبول في الغابة ضد السودان »الدولة الأم« والذي بذل وصبر و تحمل مسؤولية الحفاظ على الجنوب ،ورفض بعثرة وتوزيع قبائله على مناطق دول الجوار يوغندة وكينيا وأثيوبيا، وثابر على تقديم التضحيات والبذل بتجرد ولكن دون فائدة أو جدوى، ولقد حذر اكاديميون وباحثون وسياسيون من »عقلية قيادة الجنوب« و انه في حال الانفصال وقيام »دولة جديدة« فإنهم لن يتذكروا فضلاً ولا تضحيات ولا حتى مصالح .سيكون العداء ضد الشمال صارخا وبدائيا.. وستندلع الحرب لا محالة بين الطرفين حال وقوع الانفصال خاصة في غياب عدم الوصول إلى توافق ومعالجات القضايا الرئيسية الحيوية، الحدود والثروة، والنفط وتوفيق اوضاع الجنوبيين في الشمال ،والشماليين في الجنوب ،يصبح الحديث عن جوار حسن بعيد المنال .ورغم الحيثيات التي استند إليها الباحثون والأكاديميون في اجماع حول رؤيتهم لمآلات ما هو قادم ن إلا ان الواقع أظهر بوضوح ايضاً ان عداء قيادة جوبا للخرطوم مضى إلى أبعد مدى، أي أبعد مما هو متوقع، بدليل قرار »الدولة« المتعجل الخاص بوقف النفط وتصديره عبر الشمال. ولم تكتف الدولة بالقرار، وانما كلفت من يتجه لمواقع الآبار والنفط ليقف مباشرة على التنفيذ ،كأنما هو انجاز ومكسب وفائدة وجدوى، وقالت تقارير الاقتصاديين والباحثين في تناولها لقرار وقف النفط، ان المتضرر الأول منه هو الجنوب لأنه فقد المصدر والمورد الرئيسي الذي يعتمد عليه في تسيير المطلوبات الحيوية لأهل الجنوب، وانه غير صحيح ما قاله حكامها وتنفيذيوها ان جوبا اتخذت القرار وهي جاهزة لتبعاته، ثم أضافوا عاملاً آخر لحجم الضرر الناجم عن وقف وتجميد النفط ،انه في حال اتخاذ قرار آخر لاستئناف استخراج النفط من الآبار العميقة وتصديره عبر خط الشمال إلى بورتسودان، فإن الأمر يحتاج إلى زمن غير قصير، أقله في نهاية ديسمبر 2012م، اما إذا قررت قيادة دولة جوبا انشاء خط انابيب للتصدير عبر جيرانها فإن هذه العملية ستستغرق زمناً اطول »قدروه بنحو عامين«. وانظر إلى الخسائر الفادحة الناجمة عن القرار العدائي المتعجل .ثم انظر ايضاً كيف جاء رد فعل الدول الكبرى »الولاياتالمتحدة« والمجموعة الأوروبية، وبعض دول آسيا، لقد تنبهوا إلى استخفاف دولة صغيرة جديدة لا يصل انتاجها النفطي يومياً لنحو »500« ألف جالون، وتعتمد بالكامل على عائده ومع ذلك تؤذي نفسها ولا يهمها تعاقداتها أو اتفاقياتها مع غيرها ،وقرروا البدائل الفورية، أي عدم الركون في التعامل مع دول صغيرة تفتقر لخبرات ومعاملات الدولة الراشدة، لقد قرروا تكثيف استخدام وتطوير اجهزة وآليات التنقيب عن البترول في اعماق البحار حيث المخزون الوفير من البترول، وحثوا كندا بوجه خاص والتي تحتفظ بمخزون هائل من النفط إلى مضاعفة انتاجها لتوفير احتياجات الدول المجاورة لها وبوجه خاص الولاياتالمتحدة ،وان يمضوا ايضاً في إيجاد البدائل للنفط وهم جادون تماماً، ويعرفون جيداً ما يعتزمون تحقيقه والوصول إليه. وأنظر إلى تفاعلات قرار متعجل وآثاره المباشرة على جوبا والحصاد المر والمدمر الذي الحقته بنفسها، وهي تدفع فواتير خسائر قرارها على ثلاث مراحل .اما السودان الذي ارادت في الاصل الحاق الضرر به فإن قرار جوبا تحول من »ضرر وأذى« محدود إلى ما يمكن ان يكون نفعاً و فائدة كبيرة. فالسودان، ومهما تعددت مبررات النيل منه، فهو دولة وحضارة وخبرات وارادة، بدليل أنه استخرج »النفط« من آبار الجنوب فيما يمكن وصفه (بملحمة أسطورية). لقد كانت العقوبات الاقتصادية والسياسية مفروضة عليه من الولاياتالمتحدة والمجموعة الأوروبية ومنعت عنه المعدات والتكنولوجيا الحديثة، ودفع بدول الجوار لتسيير جيوشها لاجتياحه، ولكن ارادة الخرطوم ثابرت على الصمود والتصدي فدحرت العدوان الثلاثي وردت قواته بقوة. واستخرجت دولة الخرطوم النفط في الجنوب وانشأت اطول خط انابيب من الجنوب لتصديره عبر ميناء بورتسودان شرق السودان.. الخرطوم قادرة على تكثيف جهودها وطاقاتها وخبراتها وعلى كافة المستويات لتجاوز الازمات والصراعات مهما تعددت ،لأنها أي الخرطوم تمتلك الحضارة والخبرة والارادة، والدولة، وانظر إلى هذا التقرير البريطاني عن محادثات أجريت مع قيادة الحركة الشعبية زارت لندن في اعقاب اتفاقية السلام »2005-2011م« وتلقت القيادة نصيحة من وزارة الخارجية البريطانية ومن نواب في مجلس العموم البريطاني ان يجعلوا اولوياتهم ازالة آثار الحرب وإعمار الجنوب والبنيات التحتية، والحفاظ على السلام والاستقرار، ولكن قيادة الحركة الشعبية كان لها رأي آخر وموقف آخر، ورفضت لندن طلباً للحركة الشعبية بالتعامل مع مكتبها والاعتراف به ،وجاء ردها بالتعامل مع السفارة السودانية لدى بريطانيا باعتبارها ممثلة للحكومة السودانية، ثم التفت إلى فقرات مهمة من تقرير اصدرته عشر منظمات غير حكومية على رأسها (أوكسفام ) و(انقذوا الاطفال) و(المعونة المسيحية)، ووصف بأنه تقرير واف وأمين وفيه اضافات دقيقة تدل على المعرفة بكل خفايا الأمن والإعانة والسياسة والتنمية، وقدم التقرير علنا بإحدى قاعات مجلس العموم البريطاني في 7 يناير 2010م أي قبل اجراء الاستفتاء لتقرير مصير الجنوب في 2011م وعنوان التقرير »Rescuing the peace in southern Sudan«.. جاء في التقرير ان عدد القتلى الجنوبيين بلغ الفين وخمسمائة »2500« في العام 2009م، أي أكثر الضحايا من ضحايا دارفور، وقال التقرير ان نزاعات الجنوب شردت »000 350« »ثلاثمائة وخمسين ألفاً« عن ديارهم.. انتقد التقرير سياسة التنمية بالجنوب وقال »لم تتمكن حكومة جنوب السودان من توجيه اهتمام كامل وكاف للتنمية، فالأمية منتشرة بنسبة تبلغ »90%«، ولا تتوافر مياه شرب نقية إلا لأقل من نصف الجنوبيين، ونسبة الوفاة لدى النساء الحبليات من أعلى النسب في العالم، وعن الأمن يقول أن مقدرات الشرطة في الجنوب متدنية للغاية وان الجيش الشعبي يضطر للتدخل وهو بدوره يمر بمرحلة انتقالية من حركة تمرد إلى جيش نظامي محترف، وادى ذلك إلى حالة غريبة تجمع فيها الأسلحة من المواطنين لكنها لا تظل في أيدى الحكومة بل تجد طريقها مرة أخرى إلى الشارع، ولذلك فإن المواطن لا يطمئن بأن قوات السلطة الحكومية ستحميه وفوق ذلك فإن الجيش الشعبي نفسه بحاجة إلى تدريب وتوعية تشمل حقوق الانسان«.. وتلمح بعض الفقرات إلى الفساد فيقول التقرير »أن حكومة الجنوب يتعين عليها بمساعدة دولية ان تزيد من اجراءات المراجعة والمحاسبة المالية وتحسين ادارة الموارد الهائلة وتوجيهها نحو التنمية، ويكشف عن تقصير للمجموعة الدولية .ويشير إلى أن الصندوق المشترك لأعمار الجنوب رصدت له موازنة قدرها »524« مليون دولار لم ينفق خلال خمس سنوات أي مبلغ يذكر للخدمات الصحية بالجنوب ،ويدير الإعمار صندوق البنك الدولي« .ويحذر التقرير البريطاني بضرورة حسم القضايا العالقة، الحدود والنفط وأوضاع المنتسبين في الجنوب وفي الشمال والمعاملات المشتركة وغيرها قبل الاستفتاء. وكشف التقرير أيضاً أن »40%« من الموازنة في الجنوب رصدت للسلاح، التقرير الذي صدر مطلع العام 2010م افصح عن اوضاع الجنوب وكيفية ادارة الجنوب وإدارة موارده التي يوظف »40%« منها لشراء السلاح. هذا الاتجاه المبكر لشراء وتخزين السلاح وقبل الاستفتاء والانفصال وقيام دولة الجنوب يكشف ايضاً النوايا المسبقة للحرب ضد السودان الذي منح واعترف بالدولة الجديدة.. نقلا عن صحيفة الرأي العام السودانية 27/2/2012م