في مضابط المفاوضات بين وفدي الحكومتين المصرية والبريطانية حول الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان في الفترة من نوفمبر 1952م - 12 فبراير 1953م سجلت أقوال المسؤولين البريطانيين ومنهم السكرتير الإداري »المسؤول الأمني في السودان« ما مفاده: »بالنسبة لأهل الجنوب، أنهم يعيشون في الغابات والأدغال، ولا يعرفون القانون ويلجأون للطبول والحرائق، انهم بدائيون يستخدمون الأدوات البدائية، »إستخدام الحراب« و»اطلاق صرخات الحرب«، ووقع التمرد الدموي إبان الحكم الذاتي »1954- 1955م« الذي أودى بحياة المدنيين الشماليين من إداريين وفنيين ومعلمين وتجار، وبعضهم مع زوجاتهم واطفالهم، وجاء التحذير المبكر آنذاك أيضاً »أن الشماليين بحكم الإرث والحضارة والدين قادرون على النسيان والتسامح، ولكن اعراف وارث البدائية في الأدغال انهم لا ينسون، فإن الزمن لا يزيدهم إلا حقداً وكراهية وعنفاً، ولا بد من المعالجة لقضية الجنوب لكي لا تستنزف الشمال بشرا وموارد واستقراراً، ولم يلتفت احد للتحذير القوي، آنذاك أي في نوفمبر 1955م، وبعد 21 ثورة اكتوبر 1964 التي شددت في أهدافها على ضرورة حل مشكلة الجنوب ،وفي المقابل خرجت مواكب الجنوبيين في فبراير 1965م، بالعاصمة لتهاجم الشماليين المارة، وتقذفهم بالحجارة وتشعل النيران في السيارات وتحطم الممتلكات بسبب اشاعة باعتقال وزير الداخلية السيد كلمنت امبورو في الجنوب وهو المسؤول الأول عن أمن كل السودانيين، واستطاعت أجهزة البوليس إيقاف العنف المتفلت البدائي وهو الأول من نوعه في العاصمة المتحضرة، وهذه الأحداث العنيفة بوجه خاص نبهت الجميع إلى الفارق والخلفية بين الشمال والجنوب ،ووجوب أخذ الأمر بكثير من الجدية والحذر والتحوط، وبتجاوز حرب الجنوب وأضرارها وخسائرها الفادحة الشاملة، ونتذكر بعد توقيع اتفاقية السلام يناير 2005م بنيروبي وواقعة أو حادثة الطائرة الرئاسية اليوغندية التي أودت بحياة النائب الأول وزعيم الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق فإذا بهم يخرجون لإضرام النيران وحرق الممتلكات، متاجر وصيدليات وعيادات، ومكاتب ومعارض وتدمير سيارات وقتل ابرياء كانوا في سياراتهم أو يمشون لقضاء حاجياتهم، وكانت أحداثاً مروعة وفادحة، مع ان الشماليين كانوا حزانى بحق على رحيله المباغت، وقد كانوا اكثر حزناً على ما يصنعه الجنوبيون، »هذا الشريط« من »أحداث عنيفة« عرفتها العاصمة لأول مرة »الأحد الأسود 1965« ثم في اغسطس 2005م تداعى تلقائياً لدى مطالعة تقارير لأحداث وقعت في 15فبراير 2012م بشارع المطار »الخرطوم« وفوجيء الكثيرون ان الجنوبيين وحدهم هم صناعها .وحسبما أوردت التقارير الصحفية »فإن الجنود الجنوبيين المسرحين من القوات المسلحة تظاهروا وقذفوا الشرطة وسيارات مدنيين بالحجارة وأغلقوا شارع المطار احتجاجاً على التأخير في دفع استحقاقاتهم، وقذفوا -أي المتظاهرين- السيارات بالحجارة مما تسبب في تهشيم زجاج نوافذ بعضها قبل تفريقهم من شرطة الشغب مستخدمة الهراوات بدون وقوع اصابات أو اعتقالات ،وطوقت الاحداث مع التزام بمعالجة الأمر« أي أنهم لجأوا للارث البدائي وليس اتباع الاجراءات المعاشية.. كيف نتفادى احداث أو مفاجآت لاحقة سواء من حكومة الجنوب أو من ينتسبون إليها هنا وهناك؟!! بتركيز شديد مطلوب مساندة منهج الدولة لإقامة علاقة راشدة ومعافاة مع دولة الجنوب الوليدة رغم الخلافات والاختلافات حول»القضايا المعلقة« والتأمين بالضرورة على سياسة حسن الجوار التي تراعي مصلحة البلدين في الاستفادة من الحدود الطويلة، وافتتاح سفارة في جوبا واختيار سفير بمعايير المقدرة والكفاءة للإضطلاع بالمهام الاستراتيجية المرتبطة بالتواصل والمنافع والمصالح المشتركة، ولكن وحتى تتجه الأمور في الاتجاه الصحيح والصائب والمستقر.. ü فإن حصاد التجارب والمعاملات والمداخلات والمفاوضات وتصريحات الحرب ينبغي ان تظل دوماً في الذاكرة ولا ينبغي ان تغيب أو تتوارى أبدا. لا بد وفي ذاكرتنا وأمام اعيننا احداث العسكريين المعاشيين الأخيرة في شارع المطار، التعجيل بمعالجة أوضاع وتسهيل العودة إلى بلدهم »الجنوب« للحيلولة دون وقوع أو تكرار مثل هذا الأمر على أية صورة.. ü ضرورة رعاية المواطنين الجنوبيين الذين تعذر عليهم الترتيب لانتقالهم إلى وطنهم، ومع الرعاية اكمال الترحيل في الفترة المتفق عليها بين الحكومتين »الخرطوموجوبا« ابريل المقبل 2012م، ومساندة موقف الخرطوم الرسمي بعدم طرد المواطنين الجنوبيين حال انقضاء الفترة المقررة، مع التذكير بالمتابعة والمراقبة اقامة وسفرا بلا عودة.. ان اتفاقية عدم الاعتداء واحترام سيادة وسلامة أراضي كل منهما والامتناع عن شن أي هجوم أو الاندفاع نحو حافة الحرب، تشكل عملاً إيجابياً لوقف العدائيات وإشعال النيران، والتدمير المتبادل، ورغم وجود الوسيط الإقليمي والدولي، فإن سوابق التعامل مع »عقلية جوبا« تجعل الشكوك »غالبة« لأن »جوبا« لا تعترف بعقلية الدولة، ولا المصلحة، ولا حسن الجوار، وأنما عن »كراهية« و»أذى« وهو ما أفضى به مسؤول بارز في وفد مفاوضات أديس أبابا، ولذلك يتعين الحذر.. ü حدد موعد نهاية فبراير 2012م لمفاوضات بين وفدي حكومة السودان وحكومة الجنوب في اديس أبابا حول النفط واستئناف ضخه وتصديره، وواضح من حديث وزير خارجية الجنوب نيال دينق »الهوة ما زالت هائلة ولا اعرف ان كان يمكن ردمها« (إذا توصلنا إلى اتفاق جيد، فنحن مستعدون لاستئناف ضخ النفط)، وجاء حديثه على هامش مفاوضات أديس أبابا »فبراير 2012م التي انتهت بدون نتائج إيجابية، لأن وفد جوبا غير راغب في الأصل للوصول إلى اتفاق مع الشمال.. ü وبتركيز شديد أيضاً فإن المفاوضين السودانيين لديهم الآن رصيد وفير من خلفيات وحقائق وتجارب ومعاملات مباشرة مع المفاوضين لحكومة الجنوب، وبين أيديهم وأمامهم مشهد »العلاقات وتطوراتها مع الدولة الوليدة »الجنوب« والتي كانت جزءا من السودان، والتي قدم لها السودان »هذا الوضع الذي يعيشه الآن »كدولة« وكعضو في الأممالمتحدة وفي الإتحاد الأفريقي وكان السودان أول من اعترف، وكان ايضاً المبادر إلى طمأنة قيادة جوبا بالقبول بنتائج الاستفتاء وبقرار الانفصال مع التنبيه بضرورة إقامة تواصل وعلاقات ومنافع ومصالح مشتركة لصالح شعبي »البلدين« لأن اسوأ سيناريوهات الانفصال ان يتحول إلى »عداء« و»خصومة« عوضا عن »أخوة« و»جيرة« و»مصالح«، ولكن »العداء« والخصومة اندفعت إلى أبعد، أي إلى »حالة أقرب إلى الحرب« حسبما وصفها الرئيس عمر البشير.. واعود ايضاً للمفاوضين السودانيين ان لديهم ايضاً خبرة ودراية ومعرفة بالعقلية التفاوضية لممثلي حكومة الجنوب، وقبلها الحركة الشعبية في نيفاشا ونيروبي وغيرها ويتذكرون جيداً ان »مسألة« الوحدة الجاذبة بين الشمال والجنوب تحولت إلى »انفصال« وأن »الانفصال« تحول إلى »عداء مسلح« وتأهب للحرب. ولذلك من الضرورة إذا جاز الإقتراح تأجيل مسألة التفاوض حول النفط، مهما تعددت الصعوبات والضغوط نهاية فبراير الحالي وتغيير جدول الأعمال بحيث يتناول »القضايا المعلقة« بين السودان والجنوب وان تكون الأولوية »للحدود« أي ترسيم الحدود بين السودان والجنوب وعلى أساس خارطة وحدود 1956م، حسم هذه القضية تعتبر الأهم بلا جدال.. ان الوصول إلى اتفاق حول استئناف النفط وتصديره، واستناداً لتجارب التعامل مع جوبا لن يصمد ولن يستقر ولن يدوم في ظل التعامل غير العقلاني مع جوبا، ترسيم الحدود بين البلدين يعني تلقائياً نزع فتيل الحرب القابل للالتهاب في أية لحظة من جانب جوبا التي اصلاً غير راغبة في ذلك بدليل ان »90%« من المسح والترسيم تم قبل عام من اجراء الاستفتاء العام 2011م وان جوبا وعبر ممثلها في اللجنة كانت تغيب أو تماطل أو تزايد.. ü ضرورة القيام بحراك دبلوماسي كثيف مع واشنطن والمجموعة الاوروبية والاتحاد الافريقي والحليف الاستراتيجي الصين لدفع جوبا للتصرف بمسؤولية وحكمة وان تتخلى عن (عقلية الحرب والغابة) إلى عقلية (السلام والدولة). نقلا عن صحيفة الرأي العام السودانية 21/2/2012م