تعيد أجواء المفاوضات الجارية بين دولتي السودان وجنوب السودان، بأديس أبابا الإثيوبية هذه الأيام، إلى الأذهان – بصورة أو أخرى – ذات أجواء المفاوضات التي جرت بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، في منطقة ميشاكوس الكينية نحو قبل عقد من الزمان، وعلاقة الشبه – ربما – تتضح في التصعيد العسكري الموازي للمباحثات، وهي علاقة تصبح قة طردية في بعض الأحيان وتعاكسية في كثير من الأحايين الأخرى. ومع أن الطرفين في كينيا – حينها - انتهجا سياسة "يد تحمل السلاح وأخرى تفاوض"، وقد أنتجت تلك السياسة اتفاق ميشاكوس الإطاري، الذي شكل علامة فارقة في سير المفاوضات وأوصل لانجاز اتفاقية السلام الشامل، لا يبدو أن مباحثات أديس أبابا المتعثرة تنحو في هذا الاتجاه – اتفاق إطاري ينهي الحرب – خصوصا بعد أن برز على الطاولة (جند) طارئ ورئيس، متمثلا في المواجهات الجارية بين القوات المسلحة من جانب والجيش الشعبي التابع لجنوب السودان والحركة الشعبية، من جانب آخر، بمنطقتي تلودي وهجليج ومناطق أخرى، وتبادل الاتهامات بمسئولية ذلك التصعيد العسكري. ولا يستطيع المراقب بأية حال ملاحظة أي مؤشرات بأن جولة المفاوضات الحالية تمضي على المسار الصحيح لها، فالمواجهات العسكرية في تلودي وهجليج، ألقت بظلال كثيفة على المفاوضات وربما تؤدي بها إلى الانهيار ما لم يفلح الوسطاء في حمل الطرفين على مناقشة الملف الأمني كأولوية ملحة والتوصل إلى اختراق حقيقي فيه، خاصة في أعقاب اشتراط وتمسك الخرطوم بحسم الاعتداءات المتكررة التي تقوم بها حكومة جنوب السودان، على السودان، ووقفها لدعم المتمردين – الجبهة الثورية والجيش الشعبي - والامتناع عن إيوائهم، كأولوية يكون الانطلاق عبرها مدخلا إلى الملفات الأخرى – أوضاع مواطني البلدين في كل بلد والنفط والقضايا الاقتصادية والتجارية وغيرها- وقد سيطرت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين بشأن الاشتباكات المستمرة على أجواء المفاوضات أمس الأول، حيث كان مقرر أن تبدأ مباحثات مباشرة حول الملف الأمني. وقدم وفد الخرطوم لرئيس الآلية الأفريقية ثامبو أمبيكي، تقريراً مفصلا حول اعتداءات جنوب السودان وحشد قوات الجيش الشعبي من جديد بنية مهاجمة هجليج وكذلك قصفها لمنطقة تلودي بالمدفعية الثقيلة الأمر الذي يمثل عائقاً أمام المفاوضات بين البلدين. كما أبلغ الوفد رئيس الوزراء الأثيوبي ملس زيناوي بتلك التطورات، وقال رئيس الوفد، وزير الداخلية إبراهيم محمود حامد، لقناة الشروق من أديس أبابا "نقلنا لأمبيكي أن اعتداءات الجيش الشعبي وهجومه على هجليج والاعتداء على تلودي واشتراك الفرقة الرابعة للجيش الشعبي في عمليات لصالح المتمردين تجعل من المستحيل الاستمرار في التفاهمات". وأكد الوفد الحكومي في بيان أصدره أمس الأول، في أديس أبابا، أن حكومة جنوب السودان لا تزال مرتبطة عضويا بالفرقتين التاسعة والعاشرة الموجودتين بالنيل الأزرق وجنوب كردفان التابعتين للجيش الشعبي وتقدم لهما كل أشكال الدعم المعنوي والمادي لإطالة أمد الحرب في المنطقتين وسد كل نافذة للسلام وإكمال بروتوكول المنطقتين. ولفت الوفد لإيواء حكومة جوبا لحركات دارفور الرافضة لاتفاق الدوحة وتقديمها كل التسهيلات التي تعيدها للحرب مرة أخرى في دارفور، وأنها – جوبا - أسهمت في تشكيل الجبهة الثورية واتهم البيان الجنوب بقيادة هجوما عسكريا مباشرا على منطقة هجليج في جنوب كردفان وقد أعلنه رئيس دولة جنوب السودان على الملأ في الوقت الذي كانت فيه المحاولات جارية لإعادة الأمور إلى نصابها وفق المنهج الجديد الذي اتفق الطرفان عليه. ورأى الوفد الحكومي أن بيان حكومة جنوب السودان الصادر عن باقان اموم حاول تشويش جولة المفاوضات بالاتهامات الجائرة والتهديد المبطن بما يشئ عن نية لإفشال الجولة وعدم الوصول لاتفاق يضع حدا للعدائيات ويستلهم روح السلام بين البلدين والذي قطع شوطا طويلا. وقال البيان "رغم الغيوم الكثيفة التي تلبد أجواء العلاقة بين الدولتين والظروف غير المواتية من تصعيد عسكري وإعلامي متعمد من جانب حكومة الجنوب إلا أن الخرطوم دفعت بوفد عالي المستوى ومفوض لمناقشة كافة القضايا موضوع الجولة ولوضع المعالجات اللازمة". غير أن حكومة الجنوب رأت في وفد الخرطوم إلى أديس أبابا، غير ما ذهب إليه بيان الوفد، واعتبرت عدم حضور وزيري الخارجية علي كرتي والدفاع الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين، إلى العاصمة الإثيوبية تقليصا مقصودا من حكومة الخرطوم للوفد المفاوض، وعد كبير مفاوضي جنوب السودان باقان أموم في مؤتمر صحفي السبت، عدم وجود الوزيرين بأديس تراجعا من الخرطوم، في حين أعلنت الحكومة في الخرطوم في ذات اليوم أن وزير الدفاع الفريق عبد الرحيم محمد حسين، الذي كان في مهمة خارج البلاد سيلتحق بالوفد المفاوض (أمس)، ولم يكتف كبير مفاوضي جنوب السودان بذلك ولكنه نفى التهم الموجهة إلى بلاده بالتوغل إلى داخل حدود البلاد مدعيا عدم وجود أي جندي لدولة جنوب السودان في أراضي السودان، وقال أموم "إن السودان يريد أن يصرف نظر الوساطة الأفريقية من خلال شكوى قدمها للاتحاد الأفريقي، بزعم أننا دخلنا للعمق السوداني. لكن القوات المسلحة ردت على كبير مفاوضي الجنوب من الخرطوم، مقترحة - القوات المسلحة - إرسال لجنة افريقية للحدود المشتركة بين السودان والجنوب للتحقيق في الاتهامات المتبادلة بين البلدين حول صحة الاتهامات بالاعتداء على أراضي كل منهما. وانتقد المتحدث الرسمي للقوات المسلحة العقيد الصوارمي خالد سعد أمس الأول، الاتهامات التي أوردها كبير مفاوضي جنوب السودان في بيان أصدر أمس الأول، بأديس أبابا مدعيا هجوم القوات المسلحة على مناطق بولاية الوحدة، وقال "يمكن وضع حد لهذه الاتهامات بإرسال لجنة لتقصي الحقائق حول صحة هذه المزاعم". وأضاف الصوارمي "نحن أدلتنا هي التجاوزات الموجودة على الأرض وعلى المراقب أن ينظر ما يجري هناك وهم الآن داخل أراضينا وعلى الحدود يحشدون قوات لمهاجمة هجليج وأجهزة الإعلام صورت هذا". مؤكدا توغل الجيش الشعبي إلى داخل حدود السودان بمسافة (3) كلم في منطقة التشوين بهجليج في خرق واضح لكل المواثيق الدولية. إزاء كل تلك التطورات تحاول الوساطة الأفريقية، حمل طرفي التفاوض للالتقاء في منطقة وسطية تجنب جولة المفاوضات شبح الانهيار، فعمدت إلى مطالبة الطرفين بتقديم مقترحات تمكن من تجاوز التصعيد الأمني وحالة التوتر الحاصلة، ودعا رئيس الوساطة ثامبو أمبيكي، الوفدين لالتزام جانب التهدئة، مؤكدا أن الجولة الحالية من المفاوضات غير اعتيادية، مشددا على ضرورة الاتفاق على الأجندة المطروحة. ورأى المتحدث باسم وزارة الخارجية العبيد أحمد مروح، أنه كان يفترض أن يكون هناك دعما سياسيا لهذه الجولة، لكن السلوك العدواني لا يمكن أن يتم معه التفاوض. وقال لقناة الشروق أمس الأول: "ليس هناك تفاؤل بإحداث اختراق ما لم يتغير السلوك العدواني لدولة الجنوب التي اعتدت على الأراضي السودانية". مؤكدا أن الحكومة السودانية لن تغير إستراتيجيتها في أن لا يحققوا كسباً سياسياً عن طريق التصعيد العسكري، وأضاف: "مثلما نتحارب في الجبهة نتفاوض على الطاولة". وكان مقررا أن تبدأ مفاوضات مباشرة بين الطرفين، بعدما اتفقا خلال اجتماع مباشر بينهما بحضور الوسيط ثامبو أمبيكي، على نقل الحوار المباشر، على أن يتقدم كل طرف برؤيته ومقترحاته. وترهن حكومة الخرطوم مناقشة القضايا العالقة مع الجنوب بمناقشة الملف الأمني كأولوية وتتمسك بسحب حكومة جنوب السودان للفرقتين التاسعة والعاشرة بولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وطرد الحركات المتمردة وإنهاء دعمها بجانب وقف العدائيات. وأوضح حزب المؤتمر الوطني الحاكم، أن الوفد الحكومي الموجود بأديس أبابا يقتصر تفويضه على مناقشة القضايا الأمنية، وأكد المتحدث باسم الحزب، الدكتور بدر الدين إبراهيم في تصريحات عقب اجتماع القطاع السياسي أمس الأول، حرص الحكومة على حسم الترتيبات الأمنية وعلى رأسها سحب قوات الفرقتين التاسعة والعاشرة من جنوب كردفان والنيل الأزرق، ووقف دعم جنوب السودان للتمرد وطرد قواته وقادته من أراضيها بجانب وقف العدائيات. وقال إن حسم الترتيبات الأمنية مقدم على غيره إذا كانت دولة الجنوب تعمل من أجل خلق علاقات تعاون وحُسن جوار مع السودان. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 3/4/2012م