لم أصدق أبداً أن التاسع من تموز/ يوليو ،2011 تاريخ انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم، كان خاتمة الأحزان لهذا البلد العربي العائم على الثروة والمنكوب بالفقر والجوع وبسياسات حكامه . إنها بحق بداية الأحزان في السودان. وقد كتبنا في “الخليج" وقتئذ: “مهلاً هناك دارفور" . وكردفان أيضاً، ما برحت الآفات نفسها تضرب في هذا البلد بلا رحمة، والسياسات نفسها المبنية على شبق الى السلطة والتسلط لا حدود لهما . طار ثلث عاشر بلد مساحة في العالم وأكثر من خمس مواطنيه وكأن شيئاً لم يكن . وبدلاً من استبداد الفقر والمرض والجوع في جمهورية واحدة، ها هو عميم على جمهوريتين بعاصمتين جوباوالخرطوم . أما الثروات الكامنة من الموارد النفطية والغاز والمعادن النفيسة والخسيسة من الحديد والزنك والكروم وغيرها الكثير، وأما الإمكانات الهائلة المعطلة من الثروة الزراعية فلم تجد من يستثمرها ويطلق لها العنان . الحكومة المركزية في الخرطوم تطالب الآن عبثاً بنصف إنتاج النفط من الجنوب ومن المناطق الخاضعة لحكومة جوبا عملاً باتفاق نيفاشا 2005 . قضية منطقة ابيي المترعة نفطاً والمتنازع عليها باقية من دون حل . في وسع حكومة الخرطوم التحكم بصادرات نفط الجنوب، المورد شبه الوحيد من العملات الاجنبية لجوبا كما هي الحال في الوقت الحاضر، ما دامت دولة الجنوب لا منافذ بحرية لها ولا مصافي للتكرير . وربما تعتقد الخرطوم أن عائداتها من رسوم مرور صادرات نفط الجنوب عبر مرافئها لا تقارن بحجم حصتها من النفط مناصفة . ويبقى هذا الأمر إشكالاً يحول دون تحول اتفاق نيفاشا في شقه النفطي كتاباً صريحاً وواضحاً للتنفيذ . وكلاهما الخرطوموجوبا يلعبان لعبة مستترة في الإشكال المذكور . ذلك أن اتفاق نيفاشا أعطى الخرطوم نصف النفط في الجنوب البالغ نحو 70 في المئة من ثروة النفط الاجمالية في السودان . أي نحو 35 في المئة منه، الى جانب 30 في المئة موجودة أصلاً في الشمال لحكومة الخرطوم . وبذلك تحوز الأخيرة 65 في المئة من النفط الاجمالي . ويبدو أن الحسم في الأمر مؤجل في انتظار حسم إقليم أبيي وملكية النفط المتنازع عليها هناك . وظني أن هذه هي المشكلة الكبيرة والقنبلة الموقوتة في اتفاق نيفاشا، التي قد تنفجر تبعاً لعوامل جيوسياسية واقتصادية معاً . من العبث البحث في المشكلات الاقتصادية والآفات الاجتماعية التي تعصف بالسودان، من المنظور الاقتصادي الصرف، معزولاً عن الفكر السياسي، فشل النظام في إرساء أي نموذج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي إحداث نقلة في اقتصاد السودان تتيح لهذا البلد استغلال موارده الطبيعية، وكذلك البشرية التي لا يستهان بها وبات معظمها في الخارج . ولم تتحسن المؤشرات الاجتماعية والظروف المعيشية البالغة الصعوبة . وحيث لم يتمكن النظام من جسر الفجوة العميقة بين التنمية والرفاه من جهة، وبينها وبين التخلف والفقر من جهة ثانية، أو حتى كسر حدتها، ادى تنامي المشاعر الدينية والاثنية والاقلوية لدى التعدديات الكثيرة في البلاد، المؤهلة في طبيعتها لذلك، الى خوضه حروباً على اكثر من جبهة في الحنوب ودارفور وكردفان، استنزفت ما تبقى من موارد لتمويل المشروعات والاستثمارات وهجرت الرساميل والنخب الى الخارج . فكان تقسيم السودان وولادة دولة الجنوب نتيجة طبيعية . الهروب من مهمات التنمية، وجبه الفقر والمرض، وتراجع مستويات التعليم، وتنامي البطالة، واتساع الفجوة الغذائية، يشي بمشهد مقلق في البلاد العربية، ويوقظ النزعات الانفصالية ويفرغ ما بات اصطلاحاً “الربيع العربي" من أهدافه وطموحاته . هذا ما نراه للأسف اليوم في أكثر من بلد عربي . يتبدى ذلك في ليبيا ومصر . وفي العراق . ويلاحظ أن النزوع الى الانفصال على خلفية مذهبية أو قومية منتعش في مناطق الثروة النفطية . “إعلان مجلس برقة الانتقالي" المنطقة الشرقية في ليبيا فيدرالية، وهي المنطقة الغنية بالنفط، والمشكلات بين إقليم كردستان وحكومة بغداد عينة ليست بعيدة عن سيناريو السودان وحكومة جوبا: التجزئة وتبديد الموارد . المصدر: الخليج 10/4/2012م