نظرياًً يمكن القول إن علاقة قناة الجزيرة بالسودان -على وجه العموم- علاقة عادية، تقترب منه أو تبتعد بحسب الخبر، فالقناة التى حازت – لسنوات احترام الكثيرين، بصرف النظر عن محتوياتها أو توجهاتها لم تحُز على هذا الاحترام على أيّة حال، بعيداً عن المهنية الإعلامية بإعتبارها قناة إخبارية تجري وراء الخبر، وأنَّ الخبر ضالتها أني وجدته أخذته. وقد لُوحظ – وعلى نحوٍ ملفت بالفعل – أن القناة تجاهلت الى حد يقترب من العدم خبر استعادة السودان لمدينة هجليج ظهيرة الجمعة الماضية بعد احتلال دام عشرة أيام بواسطة جيش دولة جنوب السودان. الخبر فى حد ذاته خبر مهم، بصرف النظر عن حواشيه ومتونه غير، أن القناة تعمدت تجاهله وبدا هذا التجاهل صارخاً للغاية . وبالطبع لا يمكننا كمراقِبين أن (نطلب) من القنوات الفضائية التى تملأ الفضاء ويضيق بها الأفق أن تبرز هذا الخبر أو ذاك، ففي النهاية يخضع هذا الأمر لتقدير القناة المعنية، وربما توجهات مالكيها ودرجة قربهم أو بعدهم من هذا الطرف أو ذاك، ولكن بالمقابل ومهما كانت التبريرات هناك صعوبة بائنة فى فهم مغزي هذا الموقف أو إيجاد (تفسير إعلامي موضوعي) له، فقد ظلت قناة الجزيرة شديدة الاهتمام بالشأن السوداني عموماً، ربما بإعتباره يقع ضمن أولويات اهتماماتها فى المنطقة وكان هذا واضحاً فى الاهتمام الواضح فى بداية الازمة، حين ظلت القناة تهتم وتردِّد تداعيات عملية الاحتلال. الأمر هنا أخذ منحي متناقضاً فقد (فتحت) القناة ملف النزاع السوداني الجنوبي ولم تكن تمرّ نشرة أو موجزاً إخبارياً إلاّ وتضمن سطراً أو سطوراً من تداعيات النزاع، ولكن ما أن غيَّر السودان مجري الأحداث وأنهي عملية الاحتلال حتى (أغلقت) القناة الملف وانصرفت عنه! والشيء الغريب حقاً فى هذا الصدد أن القناة (تبنّت) بصورة لا تخلو من إنحياز لفرية جنوبية مفادها انسحاب الجيش الشعبي من مدينة هجليج وكان من السهل جداً ومن الممكن أن يكون هذا الزعم الجنوبي مفتاحاً لملف واسع للتقصي والتحقُق منه وتقديم مادة إخبارية تحليلية دسمة. لقد تردّد فى الآونة الأخيرة (حديث مطول) فى أنحاء عديدة من الوطن العربي والشرق الأوسط حول (طبيعة الدور الغامض) لقناة الجزيرة فيما عُرف بالربيع العربي، وتناسل عن هذا الحديث الذى لا يزال يتردد أكثر من سؤال وتساؤل حول (من يقف) وراء هذا العمل التحريضي بصرف النظر عن مساوئه من إيجابياته. غير أنه ورغماً عن هذه التساؤلات التى باتت بالفعل (مثيرة للريبة) – دون أن نقلل من أهمية ما خلَّفه الربيع العربي بإعتباره عملاً ثورياً بطولياً رائعاً – إلاّ أنَّ هذا الغموض ما يزال يلف أهداف القناة وماذا كانت القنوات الفضائية (حاملةُ أخبار وتحليلات) أم أنها تؤدي أدواراً سياسية إنطلاقاً من وجهة نظر بعينها. ولربما لم تشأ القناة عكس صورة التلاحم الشعبي السوداني العفوي غير المسبوق وغير المُتوَقَع مع جيشه فى ملحمة هجليج والتعبئة السياسية العالية التى عبأ فيها السودانيين أنفسهم بأنفسهم. ربما كانت هذه الرياح السودانية الحارة، غير مطابقة لمواصفات الربيع العربي الذى جعلت منه الجزيرة حلمها والراعي الإعلامي الرسمي له، أو أن (سياسة مستترة) تدخلت (بالحذف) متجاوزة الحدث السوداني الذى كاد أن ينقطع معه العشم فى ربيع سوداني. وفى كل الأحوال فإن قناة الجزيرة إصطدم فيها فى أسوأ توقيت، الهوي والرغبات بالمهنية التى إختلَّ توازنها وشارفت على السقوط!