كان كثير من قادة الوطني, الحزب الحاكم – والمراقبون والمواطنون العاديون, ينظرون بكثير من الريبة والشك, إلي رئيس الوفد الحكومي المفاوض وأكثر السياسيين الجنوبيين مناكفة للخرطوم باقان أموم, وهو ينزل من علي سلم الطائرة مبتسماً في مطار الخرطوم في الشهر الماضي عندما قاد وفداً من حكومة الجنوب لتقديم الدعوة للرئيس عمر البشير لزيارة جوبا والالتقاء برئيس دولة الجنوب سلفاكير ميارديت وللتوقيع النهائي علي اتفاق الحريات الأربعة الذي وقع بالأحرف الأولي في أديس أبابا. وسبب هذه الريبة أن أموم المعروف بمواقفه العدائية تجاه الخرطوم, كان في قمة عدائه قبيل توقيع الاتفاقية, عندما أتهم السودان باسترقاق الجنوبيين المتواجدين في أراضيه, ولم تمر أيام معدودات من زيارته حتي دخل الجيش الشعبي مدينة هجليج واحتلتها بالكامل فزالت علامات الدهشة عند كثير من الناس والسؤال المطروح بقوة هذه الأيام, وبعد انقشعت الأغبرة من معارك هجليج, وعادت إلي حضن الوطن, ماذا حدث بالضبط؟ ولماذا تحول باقان فجأة من وحش كاسر إلي حمل وديع؟ ولماذا دخلت قوات الجيش الشعبي إلي هجليج؟ وللإجابة علي هذا الأسئلة, لابد أن نعود ألي اجتماع هام وخطير, عقد بجوبا في منتصف شهر فبراير الماضي, عندما وصل وفد من البنك الدولي إلي جوبا بقيادة مدير السياسة والاقتصاد ومكافحة الفقر في أفريقيا مارسبلو جيو غيل, وعقد اجتماع مع المسؤوليين الحكوميين من ضمنهم نائب الرئيس رياك مشار, ورئيس الوفد المفاوض باقان أموم. وعملت (المجهر) من مصادر متطابقة أن السيد غيل طلب من قادة دولة جنوب صراحة بضرورة البحث عن مخرج آخر بعد أن أغلقوا أنابيب النفط وأصبح اقتصاد الجنوب علي وشك الانهيار. وطبقاً لتقرير صادر من البنك الدولي فإن اقتصاد دولة الجنوب يواجه انكماشاً حاداً وغير مسبوق, وقابل للانهيار عند حلول شهر يوليو الماضي بسبب إغلاق أنابيب النفط وعدم وجود بدائل متاحة. ووصف التقرير ما ذهبت إليه حكومة الجنوب بالحالة النادرة وغير المسبوقة, وأن هذا الأمر قد يؤدي في المستقبل القريب إلي قلاقل وعدم استقرار. وطالب وفد البنك الدولي الزائر لجوبا حكومة الجنوب بالبحث, وبشكل سريع, عن بدائل أخري, لأن المجتمع الدولي والمانحون لن يستمروا في دعم الجنوب لأسباب كثيرة أهمها أنهم لا يرون وجاهة في إغلاق الجنوب لأنابيبه, والبحث عن دعم دولي. ونصح المجتمع الدولي جوبا بالدخول في مفاوضات مباشرة مع الخرطوم والتوصل إلي اتفاق بشأن النفط. بعد هذه التطورات عقدت حكومة الجنوب اجتماعاً في نهاية فبراير, وقررت تقديم تنازلات في التفاوض بغرض إقناع الخرطوم بالتوصل الي اتفاق حول سعر عادل لمرور النفط عبر أراضيه فكان اتفاق الحريات الأربع المفاجئ للجميع. وفي هذا الصدد يقول زعيم المعارضة في برلمان جنوب السودان أونيوتي اديغو إن البرلمان في الجنوب كان قد وافق على اتفاقية الحريات الأربع ورحب بها، بعد أن رأي أنها صالحة للشعبين في الشمال والجنوب، ولكنه كان محرجاً لنا في الجنوب، بعد إن تم إغلاق أنابين النفط. وتابع خلال حديثه (للمجهر) قائلاً: يبدو أن حكومتنا قد عرفت حجم خطأها بإغلاق أنابيب النفط دون وجود بدائل، وعادت إلي علاقات جيدة مع الخرطوم، ولكن هنالك من لا يريدون السلام، وإنما يسعون للحرب والدمار. وفيما كانت الخرطوم تتهيأ لمواصلة التفاوض مع الجنوب في الملفات الأمنية، ومنحت الوسيط الأفريقي ثامبو أمبيكي الذي التقى الرئيس البشير في الخرطوم، الضوء الأخضر للمضي قدماً للترتيب للقاء الرئاسي، تفاجآت بدخول قوات الجيش الشعبي إلي منطقة هجليج الغنية بالنفط، والتي يعتمد عليها السودان بشكل كبير في دعم اقتصاده بعد انفصال الجنوب ببتروله في يوليو الماضي. وخلطت هذه الخطوة، أوراق الخرطوم والمجتمع الدولي وبعض قيادات حكومة الجنوب على حد سواء، بسبب غرابتها وسوء توقيتها كما ذهب بذلك زعيم المعارضة في الجنوب. وأضاف قائلاً: هنالك جنرالات حرب في الجنوب لا يريدون لنا السلام، ولا يعجبهم أن تستمر أيام السلام، ولذلك قرروا الدخول في مدينة هجليج، ووضعوا الجميع أمام الأمر الواقع. وأمس الأول نقل موقع (سودان تريبون) الإلكتروني عن أحد مؤسسي الحركة الشعبية لتحرير السودان – الحزب الحاكم في جنوب السودان – لوال دينق وول قوله، إن الرئيس سلفاكير لم يقم باستشارته عندما قرر دخول الجيش الشعبي في هجليج. وأضاف قائلاً: لم يستشرني، علي غير عادته عندما اتخذ قرار الدخول إلي هجليج، كما أنه لم يرجع إلي عندما قرر سحب قواته من هجليج .. لأنه يعرف أنني كنت سأرفض مبدأ الدخول أصلاً، وبعده بالانسحاب غير المبرر أيضاً. والآن، وبعد أن هدأت الأوضاع العسكرية في الميدان، بدأ كل طرف يتحدث بلسان حاله، فالخرطوم التي تحدثت بلسان المنتصر، أكدت، وعلي لسان رئيس الجمهورية عمر البشير عن نفط الجنوب لن يمر بالأراضي السودانية مطلقاً، فيما حثت جوبا التي تتحدث بلسان المهزوم، دولة بريطانيا التي تتمتع بعلاقات تاريخية مع السودان، إلي التدخل وإقناعه بالرجوع إلي طاولة المفاوضات، كما نادي بذلك نائب رئيس دولة الجنوب رياك مشار، بعد يوم واحد من تعيينه رئيساً للجنة التعبئة والاستنفار يوم الجمعة الماضي. نقلا عن صحيفة المجهر السودانية 30/4/2012م