مضى أكثر من عام على الثورة المصرية، والناس في مختلف أنحاء العالم العربي يتطلعون إلى ما يحدث في مصر، ذلك أن التغيرات التي تحدث فيها ستكون لها تأثيرات كبيرة على ما يحدث في العالم العربي بعد ذلك، ومن المؤكد أن الناس لا يحفلون بالشعارات التي تطلق من حيث إسقاط الثورة المصرية لنظام دكتاتوري تسلطي، بكون الجميع يعلمون أن كلمة دكتاتورية في مجتمع مثل المجتمع المصري كلمة مبالغ فيها، لأن مشكلة الحكم في الواقع لم تكن في دكتاتوريته- مع الأخذ في الاعتبار الطبيعة المسالمة للشعب المصري - بل في حقيقة أن النظام لم يستطع أن يعالج المشكلات الحقيقية للشعب المصري التي يسببها التزايد المضطرد في عدد السكان والذي لا تواكبه زيادة مماثلة في مصادر دخل الدولة وإنتاجيتها . وإذا تأملنا ما حدث في مصر بعد الثورة وجدنا أن السلطة سلمت إلى مجلس عسكري، ولم يكن هناك بالطبع بديل، لأنه لم تكن هناك تجمعات وطنية مدنية يمكن أن تسلم لها السلطة، غير أن المجلس العسكري يتكون من الرجال أنفسهم الذين عملوا مع الرئيس حسني مبارك، ولا يشكك ذلك بالطبع في نزاهتهم بل يدل على أن هؤلاء الرجال لم يكن لديهم التصور الثوري الحقيقي الذي يغير نظام الحكم في مصر، وهم بالطبع لم يكونوا في وضع يمكنهم من تسليم الحكم لسلطة مدنية غير موجودة أصلا، لكن المجلس العسكري سارع وأجرى انتخابات عامة اكتسحها حزب الحرية والعدالة الإسلامي ليجد المجلس نفسه أمام وضع يحتاج فيه أن يتعامل بحذر إذا كان لا يريد أن يحول النظام المدني في مصر إلى نظام ديني، وهنا تبرز المشكلة الأساسية وهي مشكلة الفرق بين الانتخابوية والديموقراطية، ذلك أن الانتخاب وإن كان هو أحد وسائل تحقيق الديموقراطية، فإن الانتخاب لا يمكن أن يعتمد عليه في تحقيق الديموقراطية، بكون الانتخابات حدثت في مصر مرات كثيرة خلال حكم الرئيس حسني مبارك، فهل جعل ذلك مصر بلدا ديموقراطيا؟ الديموقراطية هي نظام مؤسسي يحتكم إلى القانون، ولكن إذا كانت الجماعات الطائفية أو الاقتصادية أو القبلية أو الدينية تستطيع أن تصل إلى الحكم بسبب الواقع الثقافي للأمم فإن ذلك لا يحول هذه الأمم إلى أمم ديموقراطية، وبالتالي فإن الانتخابات التي جرت في مصر وأوصلت حزب الحرية والعدالة إلى البرلمان لا تجعل عملية الوصول عملية ديموقراطية تنبني عليها مكتسبات، وذلك هو جوهر الأزمة التي يعيشها في الوقت الحاضر المجلس العسكري الذي بدأ ينظر إلى الواقع السياسي في مصر من زوايا متعددة. والسؤال المهم الذي يتبادر إلى أذهان الكثيرين هو هل يريد المجلس العسكري فعلا أن ينقل الأمر إلى سلطة مدنية ؟ والإجابة هي أن المجلس العسكري يواجه مشكلات تتعلق بالاقتصاد والأمن والحراك الشعبي وهو لا يستطيع أن يواجهها بدخوله طرفا فيها، والأفضل له في كل الأحوال أن يسلم الأمر إلى سلطة مدنية وأن يكون هو الرقيب عليها على الأقل في المرحلة الأولى، لكن هذا الأمر ليس بالسهل في المرحلة الحالية بسبب غياب السلطة المدنية التي يمكن أن تتولى الأمر من منطلقات سياسية واقتصادية وقانونية خالصة. وهنا بدأ التفكير في إجراء انتخابات رئاسية بحيث يتولى السلطة رئيس منتخب يقيم من جانبه النظام السياسي الذي يدير شؤون الدولة، وبرزت ثلاثة أسماء رئيسية للقيام بهذه المهمة، وهي عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح وأحمد شفيق، وإذا أخضعت هذه الأسماء للنظر الدقيق فسيكتشف الناس أن تعيين أي منهم رئيسا لن ينقل مصر نقلة سياسية مهمة لأن هؤلاء الرجال هم من صورة النظام الذي أسقطته الثورة أو النظام الذي لا تريده مصر في مرحلتها المقبلة، كما أن تعيين رئيس في ظل غياب كامل لنظام الدولة لن يحدث تحولا في مصر أو في أي من البلاد العربية، ذلك أن الرئيس الجديد سيعيد إنتاج الأنظمة التي سبقته بتكوين بطانته الخاصة التي ستصبح بعد ذلك هي المسيطرة على الاقتصاد وتلتف حولها مجموعات الفساد على النحو نفسه الذي شهدناه من قبل .وفي جميع الأحوال فإن المجلس العسكري لن يوافق على هذا الوضع لأن أول ما يفكر فيه العسكر في هذه المرحلة هو توليد نظام يحفظ للجيش امتيازاته ويجعل لرجاله الكلمة المسموعة في نظام الحكم. وإذا نظرنا نظرة عملية في هذه المرحلة وفي ظل الواقع الذي نراه، فإن السؤال المهم هو هل يقبل الجيش أن يسلم السلطة لرئيس دون أن يكون هناك نفوذ للجيش عليه، على الأقل من أجل المحافظة على امتيازات الجيش ونصيبه من ميزانية الدولة؟ والسؤال المهم أيضا هو هل تقبل الولاياتالمتحدة وأوروبا في هذه المرحلة تحولا جادا بانتقال مصر إلى نظام ديموقراطي حقيقي، وإذا حدث هذا التحول فكيف يمكن للعالم الغربي أن يسيطر على مواقف مصر في علاقاتها مع إسرائيل؟ وتظل مسألة صياغة دستور جديد يتوافق مع هذه التحولات الجديدة في مصر أمرا مهما، وكان المجلس العسكري قد وافق في أول الأمر على أن يترك سلطة صياغة الدستور للبرلمان ولكنه حين رأى أن الانتخابات أتت بحزب الحرية والعدالة وأن الأحزاب العلمانية لا تريد تسليم سلطة صياغة الدستور الجديد للإسلاميين بدأ المجلس العسكري يفكر في سلطة مستقلة لصياغة الدستور. وإذا نظرنا إلى هذا الواقع بأسره وجدنا أنه لا يبشر بتحول حقيقي في مصر، وبالتالي لا تستطيع الدول العربية أن تنتظر تغيرا حقيقيا في مصر يمكن أن تستفيد منه لمواجهة متطلبات مرحلة جديدة، وهنا لا بد أن نتوقف لنتساءل لماذا تواجه مصر عقبات حقيقية وهي في طريقها للتحول بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ والإجابة بكل بساطة لأن كل ما تفكر فيه القوى السياسية في مصر في الوقت الحاضر هو كيفية نقل السلطة من أيد إلى أيد أخرى، وهنا نرى اتجاهين رئيسيين، هناك اتجاه الإسلاميين الذي يعتمد على اتساع وقوة المجتمع المسلم في مصر ولكنه مع ذلك لا يريد أن يقفز إلى السلطة قفزا بل يريد أن يكون أمر السيطرة عليها تدريجيا دون أن يكون هناك تصور حقيقي لتكوين الدولة تحت نفوذه، وهناك من الجانب الآخر تجمع الأحزاب العلمانية والأيديولوجية وهي أحزاب ضعيفة لأنها لم تؤسس على واقع سياسي حقيقي وإنما أسست على نزعات فردية، وأما الحديث عن الدستور فهو مجرد مزايدة مع غياب المؤسسات الحقيقية والنظام الذي يمكن أن يقننه الدستور، كما أن الدستور لم يكن في حد ذاته هو الضامن لعمليات التحول لأننا نشهد بلدا مثل بريطانيا ليس فيها دستور مكتوب ومع ذلك استطاعت أن تبني نظاما سياسيا متقدما لأن نظام الدولة نظام مؤسسي يعتمد على حكم القانون الذي هو فوق الجميع. وهنا لا بد أن نتساءل هل تستطيع مصر فعلا أن تنتقل من واقعها الحالي إلى واقع جديد بعد ثورتها الأخيرة؟ والإجابة هي أن الثورة عبرت عن الغضب الشعبي كما عبرت عن حالة الفقر التي سببها التزايد المضطرد في عد السكان مع ضمور المصادر الاقتصادية التي تعتمد عليها الأمة، ولكن ذلك كله لا يضمن أن تدخل مصر إلى عهد جديد لأن مًصر تحتاج إلى الانتقال من نظام السلطة الذي يتركز التفكير فيه على من يتولى أمر الحكومة إلى نظام الدولة الذي تكون فيه السلطة جزءا من المؤسسة القانونية التي تعمل في إطار نظام يخدم مصالح الشعب، ولا يمكن أن يتأسس هذا النظام إلا من خلال قاعدة اقتصادية ثابتة وقوية تمكن الدولة من رعاية مصالح الناس سواء كان ذلك من خلال المشروعات التي توفر العمالة لكل المواطنين أو من خلال نظام الضمان الاجتماعي الذي يوفر العيش الكريم لكل من يجد نفسه خارج مؤسسة الإنتاج والعمل، ونستطيع بصفة عامة أن نقول إن ما يطلق عليها ثورات الربيع العربي هي حالة غضب أو عدم رضا عن الواقع الاقتصادي والسياسي في العالم العربي، ولكن هذه الحالة لن تقود إلى تأسيس نظام الدولة الذي يحدث التغيير في حياة المجتمعات العربية دون إيجاد صيغة للانتقال من نظام السلطة إلى نظام الدولة في العالم العربي. المصدر: القدس العربي 10/5/2012م