ضجة كبيرة أحدثها المقال المطول الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز، حول عمليات الاغتيال المنظمة التي تقوم بها الولاياتالمتحدة في غير بلد في العالم الإسلامي. وعنوان المقال "قائمة القتل السرية: اختبار لمبادئ أوباما وإرادته"، كان موحيا بأهمية محتواه دون أن يعبر بالضرورة عن الموقف مما جاء فيه. وهو تناول عمليات الاغتيال التي تقوم بها الولاياتالمتحدة في أفغانستان والصومال واليمن وباكستان، مستخدمة الطائرات الموجهة عن بعد بدون طيار لاستهداف أشخاص بعينهم. والحقيقة أن قيام أمريكا بتلك العمليات معروف منذ فترة طويلة، وإن تم التركيز عليها في العامين الماضيين، بسبب ازدياد وتيرتها في عهد أوباما وارتفاع أعداد ضحاياها المدنيين. لكن الجديد في مقال نيويورك تايمز، هو أنه قدم صورة مفصلة عن كيفية صنع القرار الخاص بتلك العمليات. فقد اتضح أن باراك أوباما شخصيا، هو الذي يتخذ القرار بشأن كل فرد يتم إرسال طائرة لقصفه بالقنابل واغتياله. فأسماء من تقترح الأجهزة الاستخباراتية المختلفة ضرورة التخلص منهم، تعرض كلها على أوباما شخصيا بناء على طلبه، فيقوم بالاطلاع على السيرة الذاتية لكل فرد من هؤلاء، ثم يتخذ بنفسه القرار بشأن كل واحد منهم. والمقال يحتوي على الكثير من التفاصيل التي تستحق النشر والقراءة، لكنه ينطوي أيضا على معلومات مخيفة ومؤشرات غاية في الخطورة. ولعل أكثر ما أفزعني عند قراءة ذلك المقال، هو المعيار الذي يتبناه أوباما لإحصاء عدد المدنيين الذين يتم قتلهم في كل واحدة من تلك الهجمات. فقد تبين أن الإدارة تعتبر أن "كل من هم في عمر الخدمة العسكرية من الشباب الذكور المتواجدين في موقع الضربة الجوية التي يقررها أوباما لاغتيال شخص أو مجموعة أشخاص، محاربون ضد الولاياتالمتحدة". ويبرر مسؤولو مكافحة الإرهاب الأمريكان استخدام ذلك المعيار العجيب، بأن أي من يوجد في محيط نشاطات للقاعدة أو حول رموزهم، هو شخص "ينوي شرا" وإلا لما تواجد في تلك المنطقة! وفي الحقيقة فإن المعيار المستخدم هذا ينطوي على درجة من العبثية والاستهتار بأرواح البشر، تلجمك فتعجز عن وصفه. فبدم بارد وقلوب ميتة، يقولون لنا إن البلد الذي يتواجد فيه بعض الإرهابيين يصبح شبابه عن بكرة أبيهم "ينوون شرا"، لمجرد أنهم مروا في طريق سار فيه الإرهابيون! والاستهداف هنا بناء على الفئة العمرية والنوع؛ فإذا كنت كهلا في الخمسين يمكن اعتبارك مدنيا إذا ما أصبت بفعل قنابل الطائرات الأمريكية التي جاءت تغتال شخصا أو اثنين، بينما لا يمكن اعتبار ابنك ذي العشرين عاما مدنيا أبدا، فهو بالضرورة إرهابي. وعمليات الطائرات الموجهة إلكترونيا تلك، لا تقتصر على استهداف أشخاص، إذ تستهدف أيضا مواقع بأكملها. لذلك حين يتم إحصاء الخسائر المروعة لأي عملية من هذا النوع، يتم اعتبار الأغلبية الكاسحة ممن قتلوا "إرهابيين"، لا مدنيين، ويسهل على المسؤولين الأمريكيين في كل مرة الزعم بأنه لا يوجد ضحايا من المدنيين! ومما يكشف عنه المقال أيضا، حجم الدمار الذي لحق بالديمقراطية الأمريكية ذاتها منذ عهد بوش. وهو الدمار الذي لم يوقفه أوباما، بل سار بكل همة على نفس الدرب. وفضلا عن أن الرئيس الأمريكي يتخذ بمفرده قرارات سرية بتنفيذ اغتيالات على أرض دول أخرى، دون أية رقابة من المؤسسات الأمريكية الأخرى، فإن الأمر وصل إلى تصريح بقتل الأمريكيين أيضا. خذ عندك مثلا، أن أوباما أعطى بنفسه أمر اغتيال المواطن الأمريكي الجنسية أنور العولقي، بما يمثل مخالفة صريحة للدستور الأمريكي ذاته، الذي ينص على حتمية حصول "المتهم" على الضمانات القانونية والقضائية المنصوص عليها. لكن الرئيس نصب نفسه قاضيا وجلادا، وقرر منفردا اغتيال العولقي. لكن الأخطر من هذا، أن مكتب الاستشارات القانونية التابع لوزارة العدل، قام في هذه القضية بالدور نفسه الذي كان يقوم به في عهد بوش، وهو إعطاء المسوغ القانوني لتوحش المؤسسة التنفيذية وابتلاعها سلطات المؤسسات الأخرى، بما يخالف الدستور. فهو في هذا الموضوع أصدر مذكرة قانونية فريدة من نوعها، اعترف فيها بأن الدستور الأمريكي نص بالفعل على تلك الضمانات، ولكن يمكن الوفاء بتلك الضمانات عبر "مداولات داخلية في المؤسسة التنفيذية"، وهو تبرير فريد من نوعه، يخالف صراحة مبدأ الفصل بين السلطات.. والحقيقة أن سجل أوباما في ما يتعلق بالحريات والحقوق المدنية، سجل شديد البؤس. أما الديمقراطية الأمريكية فتقويضها نتيجة مباشرة للتفكير الامبراطوري لدى النخبة الحاكمة في الولاياتالمتحدة، سواء في عهد بوش أو عهد أوباما. وما لا يقل أهمية عن كل ذلك، هو علاقة أمريكا بالعالم الإسلامي. فمقال نيويورك تايمز ينقل عن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، أنها أفصحت عن قلقها من أن تلك العمليات تؤدي إلى مزيد من الراديكالية في العالم الإسلامي. لكن الحل عند أوباما لم يكن الانتباه إلى الآثار طويلة الأجل لمثل تلك الهجمات التي يروح ضحيتها المدنيون، بل على العكس تماما، فقد أصدر الرئيس قرارا تنفيذيا ينشئ حملة إعلامية ودعائية مكثفة، تسعى للرد على الراديكاليين. وهو بالضبط منهج بوش الابن حين قام بعد أحداث سبتمبر بتعيين شارلوت بيرز، التي عملت طوال حياتها في مجال الدعاية والإعلان، والتي صممت حملة من أجل "تسويق" أمريكا في العالم الإسلامي صارت مثار سخرية في العالم كله. أفضل ما قرأت هذا الأسبوع من ردود أفعال على مقال نيويورك تايمز، كان خبرا عن مجموعة من المواطنين الأمريكيين من أصحاب الضمائر الحية، دخلوا على موقع البيت الأبيض في بوابة الالتماسات، وطالبوا أوباما بأن ينشئ قائمة أخرى يطلق عليها "قائمة لا تقتل"، حتى يتمكن المواطنون من تسجيل أسمائهم فيها لعلهم ينجون من استهداف حكومة بلادهم لهم واغتيالهم. المصدر: البيان 6/6/2012م