فيما يُنتظر أن يستأنف الوفدان السوداني والجنوبي محادثاتهما فى العاصمة الاثيوبية أديس -الخميس- بشأن القضايا الخلافية العالقة، تبدو مآلات هذه الجولة غير واضحة بالدرجة الكافية، فى ظل البطء الشديد الذى لازم ما سبقتها من جولات والنجاحات الضئيلة التى أمكن تحقيقها، إذ لا يزال العديد من المراقبين يعتقدون أن الحكومة الجنوبية لم تبارح بعد تكتيك التعقيد ووضع العراقيل حتى يبلغ الخلاف ذورته ويصبح الطريق ممهداً لتدخل مجلس الأمن وفق المهلة التى حددها والتى تنقضي فى شهر أغسطس (آب) المقبل. ولكن يبرز هنا سؤال عريض على الحكومة الجنوبية أن تجيب عليه إجابة شافية؛ ماذا إذا قرَّر مجلس الأمن عقب إنتهاء المهلة المحدة -بناء على تقرير الأمين العام الدوري- أن الطرف الذي تسبّب فى وضع العراقيل وإعاقة عملية التفاوض هو الطرف الجنوبي؟ ربما بدا هذا الإفتراض مجرد إفتراض غير واقعي، وبعيد عن أرض الواقع ولكن مع كل ذلك فهو إفتراض قائم لا يمكن إستبعاده وإسقاطه تماماً، فنحن الآن فى شهر يوليو، وهو الشهر الذى حدده تقرير شهير صادر عن البنك الدولي إفترض فيه ان الدولة الجنوبية مقبلة فيه علي كارثة إقتصادية ماحقة جراء قرارها الخاطئ بوقف ضخ النفط وتصديره عبر الأراضي السودانية. وقد تلاحظ – وعلى نحوٍ ملفت ومثير للإنتباه – فى هذا الصدد أن الدكتور رياك مشار نائب الرئيس الجنوبي بادرَ فى مطلع هذا الاسبوع بنفي إحتمال إنهيار الاقتصاد الجنوبي فى هذا الشهر وأشار الى تدابير جديدة قال أن حكومته إتخذتها لتفادي الإنهيار أجملها فى الإعتماد على الجمارك والضرائب، وقال مشار (نعمل جاهدين لرؤية جمع المزيد من الإيرادات غير النفطية بواسطة القوانين الجديدة التى أصدرت، إضافة لتدريب الشرطة حتى نتمكن من تفادي الإنهيار). ما يلفت النظر فى تصريح مشار هذا أنه بدا كمن يرسل رسالة بأن بلاده ربما سارعت بحلحلة قضاياها مع السودان تفادياً للكارثة المقبلة، فهذا ما يمكن أن يُفهم من سياق وثنايا السطور وإن لم يكن بصورة مباشرة، وذلك لأن حديثه عن إيرادات غير نفطية ممثلة فى إيرادات الجمارك والضرائب أبعد ما يكون عن الحقيقة والواقع لأنَّ الجميع يعلم ان البنية التحتية للضرائب والجمارك، مفقودة وغائبة بدرجة كبيرة فى الدولة الجنوبية الوليدة، ولم تُولي الحكومة الجنوبية هذين الموردَين الإهتمام الكافي من تدريب وتأهيل كوادر، بل كان من أكثر ما يُؤخذ على الحكومة الجنوبية حين كانت حكومة إقليمية ضمن منظومة السودان الموحد وقبل أن تتحول لحكومة دولة، أنها لم تهتمّ مطلقاً – طوال فترة الانتقال الطويلة (6) سنوات – بإصلاح هياكل إدارات الضرائب والجمارك وتفعيلها، الأمر الذى أهدر مئات الملايين من الدولارات وفوَّت كماً هائلاً من المال على الحكومة، وهى علة ما تزال تلازم الحكومة الجنوبية فى ظل تركيزها على نزاعها مع السودان وتجاهلها لبناء هياكلها الإدارية ومؤسسات الدولة. إذن د. مشار كان يتحدث على نحو نظري، ومن ثم كان كمن يعترف بالإنهيار ضمنياً ولكنه يستبطن حلاً مفاجئاً وإختراقاً فى ملف النفط يعيد النفط الى الموازنة وعلى ذلك إذا ما قُدر للطرف الجنوبي أن يكابر ويواصل تكتيك التعطيل، فإن من المؤكد أن هذا ربما يدفع المجتمع الدولي لإلقاء اللوم عليه فى عدم نجاح المفاوضات وهو لوم لازم لممارسة ضغط غير مباشر عليه لإبداء جدية أكبر لحل الأزمة، إذ لن يكون منطقياً ان يجترح مجلس الأمن حلولاً مفروضة على الطرفين دون تحميل الطرف المخطئ القدر الأكبر، كما لن يكون منطقياً إلزام الجانب السوداني مثلاً بقبول معاودة ضخ النفط بسعر بعينه، فهذا ليس من إختصاص المجلس ولا يوجد ما يسنده عرفاً ولا قانوناً. الخلاصة إذن أن جوبا بدأت تتخوّف -ولو فى سرها وفيما بينها وبين ضميرها الخفي- من مغبة تكتيك الإعاقة والتعطيل، وهذه المخاوف فى تقديرنا كافية للإستناد عليها فى توقُع حدوث إختراق فى المدي الزمني الممتد منذ الآن وحتى أغسطس.