كمن يسير على أرض طينية، لا يأمن في أية لحظة ستنزلق قدماه أو في لحظة سيفقد اتزانه، تبدو هي المفاوضات الجارية بين دولتي السودان والجنوب ، فما أن امتلأت (خياشيم) الخبراء والمحللين بكلمات وعبارات ملؤها التفاؤل بأن ثمة اختراق مفصلي أو تقدم لافت سيحدث وشيكا بعدما أظهرت المباحثات المباشرة تجاوباً من الطرفين لحل القضايا المتبقية في حزمة واحدة، إلا وعادت الأمور القهقري، وهو ما جسدته العناوين البارزة للصحف الصادرة في الخرطوم أمس، التي تراوحت في توصيفها لما آلت إليه المفاوضات الجارية في بحر دار الجمعة ما بين الانهيار والتعليق. ووفقا للأنباء الواردة من بحر دار الأثيوبية فقد أعلن وفد دولة الجنوب ، من جانبه تعليق التفاوض المباشر مع وفد دولة السودان، وقال الناطق الرسمي باسم الوفد المفاوض لدولة الجنوب عاطف كير في تصريحات أمس الأول "إن دولة الجنوب قررت عدم الانخراط في أي اجتماعات مباشرة مع وفد الخرطوم إلا بحضور الوساطة الإفريقية"، مؤكدا أنهم تقدموا بشكوى للوساطة الإفريقية بذلك. وبرر الوفد الجنوبي لخطوته باتهامات جديدة وجهها للسودان بقصف مناطق داخل دولة الجنوب، وأبلغ وفد جنوب السودان الوساطة الأفريقية بتعليقه للمباحثات المباشرة مع الجانب السوداني احتجاجا. وكان وفد حكومة جوبا، أصدر بيانا إدعى فيه أن القوات الجوية السودانية قامت بالهجوم على أراضي جنوب السودان. و قال البيان "إن الوفد الذي يمثل جنوب السودان سوف يوقف التفاوض المباشر إحتجاجا على ذلك الإعتداء". لكن الوفد السوداني نفى الاتهامات التي ساقها وفد جنوب السودان، وأوضح ملابسات ما حدث مؤكدا استعداده لاستمرار الحوار المباشر. ونفى المتحدث الرسمي باسم اللجنة السياسية والأمنية المشتركة عن الجانب السوداني بالمفاوضات، السفير عمر دهب، أن تكون القوات المسلحة السودانية قد إعتدت على أراضي جنوب السودان، وقال "إن الذي حدث هو محاولة من قوات حركة العدل والمساواة المتمردة مهاجمة أراضي السودان عبر الالتفاف داخل أراضي جنوب السودان، لكن القوات المسلحة السودانية تعاملت معها داخل الأراضي السودانية ولم يحدث أن اخترقت أراضي جنوب السودان". موضحا أنهم سبق وأبلغوا الوسيط الإفريقي ورئيس وكبير مفاوضي جنوب السودان، باقان اموم، بتحركات حركة العدل والمساواة من داخل الجنوب، وان الخرطوم ستتعامل معهم إذا دخلوا أراضيها، وهذا ما تم بالفعل ولفت دهب إلى أن تلك التحركات كانت مراقبة بواسطة القوات المسلحة السودانية. وأكد دهب في تصريحات صحفية قائلا "إن وفد السودان مستعد للاستمرار في المفاوضات المباشرة مع جنوب السودان"، وأشار إلى أن وفد السودان أصدر بيانا أكد فيه حق السودان في الدفاع عن أراضيه كما أكد فيه إستعداد الوفد الموجود في أثيوبيا للتفاوض المباشر مع وفد جنوب السودان. ونفى المتحدث باسم القوات المسلحة، العقيد الصوارمي خالد سعد، إقدام القوات المسلحة على أي عمل عدائي ضد جنوب السودان. وقال "برغم وجود قوات للجيش الشعبي في منطقة تمساحة بولاية شرق دارفور فإن الجيش السوداني لم يقم بأي اعتداء على قوات الجنوب". وتأتي تلك التطورات في أعقاب اعتماد الوفدين نهجا إستراتيجيا جديدا في المفاوضات يقوم على أن يكون الحل شاملا لكافة القضايا محل الخلاف حزمة واحدة. كما أن المفاوضات دخلت وفقا لذلك النهج مرحلة متقدمة تمثلت في بدء المرحلة التفصيلية للقضايا الشاملة بناءً على النهج انف الذكر. كما أن التطورات الأخيرة – تعليق الحوار المباشر – تأتي في أعقاب تقارب لافت أحدثه اللقاء الذي جمع رئيسي البلدين، المشير عمر البشير وسلفاكير ميارديت، علي هامش اجتماعات القمة الأفريقية الأخيرة، والتي وضعت خارطة للتوصل إلي حلول لكافة القضايا العالقة قبل المهلة التي حددها قرار مجلس الأمن الدولي، 2046 والتي تنتهي في الثاني من أغسطس المقبل. واتفق طرفا المفاوضات عبر الحوار المباشر الذي انتهجاه بعيدا عن الوساطة علي حل كافة القضايا محل النقاش جملة واحدة. وبارك الرئيسان البشير وسلفاكير الاستراتيجية الجديدة للتفاوض. وأكد وزير الخارجية علي كرتي، في تصريحات عقب الاجتماع أن لقاء الرئيسين سيسهم في مساعدة المفاوضين في البلدين على تجاوز الكثير من العقبات وعلى الأقل العقبات النفسية التي كانت تحول دون الوصول إلى حلول . وقال "إن النقاش بين الرئيسين كان ودياً وصريحاً، ودرس العقبات التي تواجه المفاوضات إلى جانب المشاكل التي يعاني منها السودان جراء استضافة الجنوب لعدد من الحركات المسلحة". وعلى إثر التطور الجديد في المفاوضات انخرطت الآلية الإفريقية رفيعة المستوى بقيادة ثامبو أمبيكي، في اجتماعات مكوكية مع الأطراف بهدف توضيح الملابسات وإعادة المباحثات إلى مجراها الذي تسلكه منذ أيام – الحوار المباشر -، خصوصا وأن الوساطة قد بدأت في تهيئة المفاوضات لاختراق كبير بحسب محللين، فقد نقلتها الى منطقة بحر دار البعيدة عن العاصمة أديس أبابا، وشجعت الوفدين على الاستمرار في المفاوضات المباشرة، وأتبعت ذلك بمنع الوسائط الإعلامية من الوصول الى موقع المفاوضات. وترددت أنباء كذلك أن الوساطة ترتب للقاء ثان يجمع الرئيسين البشير وسلفاكير لإعطاء العملية التفاوضية مزيدا من الدفع. بعدما أعطى اللقاء السابق بينهما في أديس أبابا دعماً كبيرا وأدى لتهيئة المناخ لمزيد من التقدم. وقال المتحدث باسم اللجنة السياسية والأمنية المشتركة، عن الجانب السوداني السفير عمر دهب، في تصريحات "إن الجو الإيجابي في الاجتماعات تعزز الآن في مدينة بحر دار بعد انتقال المفاوضات إليها" مرجعا ذلك للاتفاق الذي تم حول مباشرة النهج الإستراتيجي لحل القضايا المتبقية كافة بين البلدين. ولدى تنويره مجلس الوزراء حول مشاركته في القمة الأفريقية الأخيرة، الخميس الماضي، اعتبر الرئيس البشير أن اللقاء الذي جمعه بنظيره سلفاكير أكد على رغبة الطرفين في التوافق على اتفاقات شاملة للقضايا محل النقاش وأن تكون الأولوية للملفات الأمنية لضمان استقرار التعاون بين البلدين. وبموجب جهود حثيثة قادتها الوساطة الأفريقية قبيل بد الجولة السابقة، فان تقدما كبيرا قد تم، وكان أول اختراق لجهة هذا التقدم هو توصل وفدا التفاوض إلى اتفاق حددا بموجبه جدول المفاوضات، الذي كان يشكل إحدى أهم نقاط الخلاف بين الجانبين، فبينما ظلت حكومة الخرطوم تتمسك بتقديم الملف الأمني على الملفات الأخرى، تطالب حكومة جوبا بحسم ملف النفط أولا، وقد ظل كل من الطرفين متمرسا في موقفه. وقادت مسودة توفيقية أعدتها الوساطة الأفريقية وطرحتها على الطرفين لتجسير الطريق أمام المفاوضات، واتفق طرفا التفاوض على نقاط محددة ستقوم الآلية بصياغتها في شكلها النهائي وتسلم للوفود لتصبح خارطة طريق المفاوضات. ثم تسارعت بعد ذلك الخطي لحين الدخول في المفاوضات المباشرة وظلت الوساطة الأفريقية تنتظر بين الحين والآخر اطلاعها على ما تم التوصل إليه. الآن، مع قرار وفد جنوب السودان بتعليق المفاوضات المباشرة يتخوف محللون من تراجع الهمة والوتيرة والثقة التي كانت موجودة كما أبدوا مخاوفا من العودة الى مربع الجمود، بل الحرب. غير أن ما يبعث ببعض الأمل إزاء استمرار محاولات حل القضايا العالقة بين البلدين عبر الحوار السلمي هو أولا: أن التعليق الذي سارت به الأنباء أمس الأول، ليس للمفاوضات جملة وإنما للمباحثات المباشرة بعيدا عن الوسطاء والتي أظهرت منذ أن باشرها الوفدان تقدما مقدرا في العملية التفاوضية. والأمر الثاني مبعث التفاؤل بعدم انهيار المفاوضات هي التحركات المكوكية التي ابتدرتها الوساطة الأفريقية لإعادة المياه إلى مجاريها. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 22/7/2012م