لو لم ترضخ جوبا أخيراً لضرورة طيّ ملف النفط مع الخرطوم وتتجاوزه لملفات أخري من المؤمل أن يتم طيّها ولو بعد حين لقلنا إن جوبا لديها ما تخفيه بهذا الصدد وان خطة محكمة تقوم بتنفيذها تستحق القلق وإثارة الهواجس والظنون، ولكن مجرد رضوخ جوبا وطيها لملف النفط فيه دلالة لا يتطرق إليها الشك أن عهد اتكائها علي العامل الأمريكي في كل شئونها مع السودان قد تراجع قليلاً إن لم يكن قد انقضي تماماً، ولهذا فإن الأمر كله يبدو في غاية البساطة بعد ما كان منذ أسابيع معقداً الي حد كبير. واشنطن تستثمر في علاقاتها مع جوبا أموراً أكثر أهمية وأعلي شأناً من مجرد ارتباطها بحليف ناشئ بالكاد أكمل عامه الأول وتحيط به المشاكل والتعقيدات. إن عمر الدولة السودانية بالطبع لا يمكن أن يُقاس بحال من الأحوال بعمر الدولة الجنوبية الوليدة. حجم المصالح التي ارتبطت بها واشنطن بالسودان هي الأخرى لا يمكن أن تُقاس أو تقارن بتلك التي تربط الآن جوبابواشنطن؛ بل حتي علي صعيد السلطة الحاكمة في كل من الدولتين فإن معرفة واشنطن لطبيعة السلطة الحاكمة في الخرطوم ومقدار المساحة المتاحة لها للحركة والمناورة وقدرتها علي انجاز الكثير إقليمياً ودولياً ومحلياً هي دون شك أكثر من معرفة واشنطن بالحركة الشعبية الحاكمة في جنوب السودان باعتبار أن قادة الحركة الشعبية في دولة الجنوب لا يزالوا مجرد ساسة حملتهم ظروف السلام والاستفتاء لحكم بلد وليد لا يزال يتلمّس طريقه ومن الممكن أن يتحول هذا البلد الي بلد فاشل في أي لحظة سواء بحكم العامل القبلي أو بسبب التعقيدات السياسية أو صراع الموارد الذي من المؤكد انه سوف يندلع في مرحلة ما قريبة أو بعيدة نسبياً في الدولة الجنوبية الوليدة. بمعني أشمل وأوضح فإن واشنطن تسير بحذر في جوبا بأكثر مما تسير بذات الحذر في الخرطوم إذ لا يعرف أحد مهما كانت دقة الحسابات والتقديرات متي وعلي أيّ شاكلة تنفجر الأوضاع في جنوب السودان ويندلع صراع دامي هناك علي غرار الصراعات الأفريقية التي شهدتها رواندا وليبريا أو الكنغو فالعناصر المهيِّجة للصراع موجودة، إذ أنَّ الجيش الشعبي في حد ذاته رغم ما قد يبدو عليه من تماسك ولأنه ليس جيشاً نظامياً ومرتبط بالعامل القبلي واحد من أهم أدوات الصراع المقبل وأخطرها؛ فهناك الطموحات الشخصية لبعض القادة وقد رأينا منهم أطور والذي لم يكن سوي تجسيد واضح للطموحات حين تقترن بالقوة وهنالك ضباط كبار في الجيش الشعبي لا تساعدهم الحسابات والموازنات القبلية بالحصول علي ما يتطلّعون إليه وهنالك من يستفيدون من موارد الدولة ولا يقدمون شيئاً لشعبها. أسباب الصراع علي العموم موجودة وبكثرة، لهذا فإن العامل الأمريكي في تعامله مع جوبا يبدو أكثر حذراً وتخوُّفاً من ما هو علي ذات الصعيد في الخرطوم وربما كان هذا يفسر جانباً من دخول واشنطن الي الملعب وبداية تعاملها مع الخرطوم علي نحو أفضل قليلاً من السابق وممارستها لضغوط علي جوبا بعضها بدا غير مألوف لجوبا كما حدث في زيارة كلينتون مؤخراً الي هناك. بإمكان ماهو موجود من معطيات حالياً أن يفسر لماذا تقترب واشنطن ولو بمقدار ذراع واحد من تحسين ولا نقول تطبيع علاقاتها مع السودان فهي تبحث عن (كابح) لكبح جماح جوبا وهي تتجه لتصبح دولة وليس مجرد منطقة يديرها قادة نصف عسكريين ونصف مدنيين. من المستحيل أن تدبِّر واشنطن مصالحها في دولة جنوب السودان وهي لا تملك علاقة معقولة مع الخرطوم موازية أو موازنة لعلاقاتها مع جوبا وهذا يقتضي بالضرورة تقليل وزن علاقاتها مع جوبا قليلاً بما يكفي لكي يجعل جوبا تبدو حذرة أو ليست بذات الجموح القديمّ !