لا يمكن الرهان كثيرًا على اللقاء الذي جمع بين الرئيس عمر البشير ورئيس جنوب السودان سيلفاكير ميارديت، على هامش قمة الاتحاد في أديس أبابا، في تنقية الأجواء بين الطرفين، خصوصًا أنَّ العلاقات بين الخرطوموجوبا تحكمها شكوك وصراعات على ملفات شديدة التعقيد؛ ومن بينها: الحدود، والأمن، ومناطق التماس بين الطرفين، ورسوم نقل نفط الجنوب، ومستقبل "أبيي"، وغيرها من المشكلات التي أججت التوتر بين الطرفين، وجعلتهم يقتربان من العودة للحرب بعد عام من انفصال الجنوب، وتحوله إلى دولة مستقلة- حيث لم ينجح الطرفان في الوصول لأيِّ تسوية لأيٍّ من القضايا الخلافية، حتى لو كانت توابعها ذات تأثير مدمر على اقتصاد البلدين؛ مثل التعاون في مجال نقل نفط الجنوب إلى العالم عبر أنابيب تمر عبر الشمال مقابل رسوم مالية. حافة الهاوية ولم يراهن النظامان على علاقات تكاملٍ بينهما؛ حيث سيطر الصراع على هذه العلاقات، وهو ما بدأت فصوله في الصراع على النفوذ في "أبيي"، وتحرك من قبل شخصيات ومليشيات جنوبية أو موالية للحركة الشعبية في مناطق التماس مثل: جنوب كردفان، والنيل الأزرق، وجبال النوبة؛ حيث سعى الجنوب بشدة لقض مضاجع نظام البشير، والرهان على حلفائه لشغل الخرطوم في معارك جانبية، ومحاولة استخدام هذه الصراعات في ابتزاز الحكومة وإجبارها على تقديم تنازلات في الملفات الخلافية، بل إنه عمد للوصول للعلاقة مع الخرطوم إلى الهاوية، وتأليب الدوائر الغربية- خصوصًا الأمريكية- عليها لمواصلة حصار النظام في الشمال سياسيًّا واقتصاديًّا. ولم تقتصر الأزمات عند هذا الحد؛ حيث سارت حكومة الجنوب في الطريق إلى نهايته بالقيام بمغامرة في منطقة هجليج الغنية بالنفط؛ حيث سيطرت قوات جنوبية على المنطقة، وقامت بأعمال تخريبية قبل أنْ تُجبَر على الانسحاب من المنطقة، سواء بضغوط خارجية أو بدحرها من قبل قوات شمالية حاولت الاستفادة من هذه المواجهة بفرض شروط المنتصر بشكل جعل محاولات تسوية الصراعات بين الطرفين ضربًا من المستحيلات، بل على العكس ذهب فريق من المراقبين إلى الإعلان على أنَّ العودة للحرب صارت الخيار الأقرب للواقع بين الشمال والجنوب بعد عامٍ من الانفصال القصري بينهما. دولة فاشلة غير أنَّ عملية هجليج كانت لها تداعيات شديدة على الأوضاع في الجنوب؛ إذ إنها كرست تحول الجنوب إلى دولة فاشلة من الطراز الأول؛ فبدلًا من أنْ تنجح الحكومة في جوبا في طي صفحة الماضي مع الجارة الشمالية، أو تفتح أبواب المصالحة مع ألوان الطيف العرقي والقبلي في الدولة الوليدة، وترسخ مبدأ المواطنة ولغة القانون والمؤسسات- وجدناها تعمد إلى التصعيد مع الخرطوم وافتعال الأزمات ورصد الأموال لدعم المتمردين عليها بدلًا من توجيهها لتطوير البنية التحتية المهترئة، وتدشين مشروعات خدمية تزيل حالة الاحتقان بين المواطنين الذين راهنوا على الاستقلال لإنهاء حقب التهميش والمعاناة على العرب الشماليين، إلا أنَّ الواقع أنَّ التهميش لم ينته على يد حكومة سيلفاكير التي عمدت على تكريس هيمنة عرقية الدينكا التي ينتمي إليها رموز الحركة الشعبية في مواجهة قبائل النوير والشلوك فقر وبطالة وأصبحت الصراعات العرقية داخل الدولة الوليدة عملًا يوميًّا؛ نتيجة حزمة المشكلات المزمنة، بل إنَّ تقارير غربية ذات صدقية زعمت أنَّ حكومة كير توظف مئات الملايين من المعونات الدولية؛ لتعزيز قدراتها العسكرية، ودعم الميلشيات المناوئة لحكومة البشير في مناطق التماس دون أنْ توجِّه قدرًا محترمًا من هذه المعونات لإقالة اقتصاد الجنوب من عثرته، في وقت تضرب البطالة والفقر ما يزيد على 90% من مواطنيه؛ مما يشكل إعلانًا- شبه رسمي- لفشلها في تحقيق حلم المواطن الجنوبي، الذي صوَّت للانفصال أملًا في ميلاد دولة جديدة يتمتع بها بحقوق المواطنة كاملة. تصدير أزمات ولكن من الملاحظ أنَّ حكومة كير تجيد استخدام الأزمات، أو اصطناع الأزمات للتغطية على الأوضاع السياسية السيئة في الجنوب بعد عام من الانفصال، وتحميل الخرطوم مسئولية تدهور الأوضاع بحجة تدخلها المستمر في شئونها، في ظل فشلها المستمر في تثبيت دعائم الدولة الجديدة، وتحقيق المصالحة الوطنية داخل حدودها، ومواجهة حزمة المشكلات التي تحاصرها سواء السياسية أو الاقتصادية أو العرقية، وعدم نجاح مساعيها بتحويل الحركة الشعبية من مجرد ميلشيا مسلحة إلى حركة سياسية، تمارس دورًا جديدًا كفاعل سياسيٍّ ضمن فصائل جنوبية أخرى في إطار دولة، وليس في إطار حركة مسلحة. شكوك ومؤامرات ولا شك أنَّ هذه الأجواء من الشكوك والمؤامرات بين الشمال والجنوب مستمرة؛ لتظل عاملًا حاكمًا في تسيير العلاقات بين البلدين، خصوصًا أنَّ أحدًا منهما لم يتبنَّ نهجًا واقعيًّا لحل المشاكل الخلافية؛ سواء الحدود أو الديون أو الصراع حول "أبيي"، وهي صراعات معقدة جدًّا، تثير الشك في نجاح أي جهود لتسوية الأزمات بين الطرفين مهما تعددت اللقاءات والوساطات الدولية ودبلوماسية العناق والتصريحات. فالبلدان يحتاجان لسنوات طويلة للتأسيس لعلاقات قوية- خصوصًا- أنَّ محاولة استنزاف كل طرف للآخر تجعلهم على حافة الحرب، بل قد تعيد أطول مواجهة أهلية في القارة السمراء إلى صدارة المشهد السوداني مجددًا ما لم تتدخل قوى إقليمية، من بينها مصر الثورة؛ لتطبيع العلاقات بين شطري السودان. افتعال الأزمات ورغم أجواء التفاؤل التي سادت بعد لقاء البشير وكير في أديس أبابا- فليس من المنطقي الحديث عن اختراق مهم يعيد الهدوء لهذه العلاقات مادامت الخلافات بين الطرفين حول: "أبيي"، ومناطق التماس، ونقل النفط، وسبل التعامل مع مواطني البلدين، وملف حركات التمرد؛ فإنَّ الدعوة لجولة جديدة من المفاوضات بين الشمال والجنوب لن تأتي بجديد، بل سيعاود الطرفان العمل على افتعال الأزمات؛ سواء الخرطوم لشغل الأنظار عن الغضب الشعبي على تردي الأوضاع الاقتصادية، أو استمرار مأساة مواطني الجنوب ومعاناتهم من التهميش، وانهيار البنى التحتية والأوضاع المعشية. لهذا، يبدو جليًّا أنَّ علاقات الشمال والجنوب ستتراوح بين الاستقرار والتوتر لسنوات قادمة ما لم تُحَل القضايا الخلافية بين البلدين بأسرع وقت ممكن، وما لم يَستَعِد الجانبان مناخ الثقة في علاقاتهما مع بعضهما بعضًا، وما لم يطرح المسئولون في البلدين مصالحهم الضيقة جانبًا، ويضعان مصلحة البلدين في مقدمة أولوياتهم، مدعومين بتوجهات إقليمية لتخفيف حدة التوتر بينهما، ووضعهم على أول الطريق- وهو أمر يرجح أنْ تلعب القاهرة دورًا كبيرًا في ظل ما تتمتع به من ثقل لدى الطرفين. تهميش وتقشف وفي هذه الأجواء فإنَّ الحديث عن نجاح أجواء المصالحة، أو احتواء المشكلات بين الشمال والجنوب- يظل محكومًا بتعقيدات شديدة؛ فلازالت حكومة سيلفاكير تواجه صعوبات شديدة في إقناع المواطن الجنوبي بجدوى نهجها في التعاطي مع الأزمات الاقتصادية والسياسية، ولا حتى مغامراتها العسكرية التي آخرها الهزيمة المدوية في هجليج، فضلًا عن أنَّ الأوضاع لا تبدو أفضل حالًا إذا اتجهنا شمالًا في ظل تنامي الرفض لاستمرار النظام، وخروج مظاهرات متتالية في كبريات المدن الشمالية ضد إجراءات التقشف الاقتصادي التي أقرتها الحكومة السودانية أخيرًا. صراع محسوب ومع هذا- ورغم أجواء التوتر الشديد التي تسيطر على الأجواء بين شطري السودان- فإنَّ الصراع بينهم يبدو محسوبًا في ظل وجود رغبات إقليمية ودولية في عدم خروج الصراع بينهما عن السيطرة؛ فمثلًا إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما حريصة على توفير نوع من الاستقرار الهش في المنطقة؛ فهي ليست على استعداد لمواجهة حرب في الخاصرة الجنوبية للمنطقة العربية، في وقت تبدو منشغلة بالوصول لتسوية الأزمات التي أفرزها الربيع العربي في سوريا ومصر وليبيا. فضلًا عن تصاعد التوتر مع إيران، وهو أمر سيجعل واشنطن تسارع الخطى لإيجاد تسوية مقبولة من الطرفين لملفات الخلاف، وعدم الدخول في حرب شاملة، رغم الإقرار بأنَّ هذه المساعي لن توقف المناوشات الدائرة بين الطرفين بين الفينة والأخرى، والتي كان آخرها إسقاط طائرة حربية تابعة للجيش السوداني بعد ساعات من لقاء البشير وكير في إثيوبيا، بشكل يؤشر لاستمرار لعبة شد الحبل بين الطرفين لمدة ليست بالقصيرة.