ليس أمراً غريباً أن تدعي واشنطن انها لا تحبذ تغيير الحكومة السودانية بالقوة، وأنها لا تتدخل فى الشأن السياسي السوداني وفى الوقت نفسه – وقبل أن ينقضي أثر هذه التصريحات – يثبت بما لا يدع مجالا ً للشك أن واشنطن فى الواقع غارقة الي أذنيها فى عمليات متصلة لتغيير الحكومة السودانية عبر تقديم الدعم المالي (بملايين الدولارات) لناشطين سودانيين لقيادة مظاهرات وعمليات إحتجاج واسعة النطاق لإسقاط السلطة الحاكمة! ذلك أن أبسط تفسير لهذا الواقع ان واشنطن تلعب سياسة وتمارس عادتها المعروفة، لأن السياسة ليس فيها خطوط طول مستقيمة؛ هناك خطوط متعرجة تتقاطع مع خطوط عرضية أكثر تعرجاًَ، ففي النهاية ليس هنالك أخلاق للسياسة الامريكية بقدر ما أن هناك مصالح لواشنطن. خبر منح واشنطن لناشطين سودانيين بالداخل ملايين الدولارات لقيادة حملات تظاهرات وإحتجاجات أورده صحفي يدعي (إيريك دريستر) مؤخراً ضمن تحليل مطول تناول فيه -بإسهاب- قضية التظاهرات الاخيرة فى الخرطوم، أشار فيها تفصيلاً للمراكز البحثية والاشخاص الذين تسلموا الأموال الامريكية. ولعل أكثر ما يثير الاستغرب هنا، أن واشنطن تدرك أو يفترض أنها تدرك حتى ولو بدواعي التجربة أن من الصعب إن لم يكن من المستحيل إسقاط الحكومة السودانية عن طريق تظاهرات مدفوعة الأجر! قضت واشنطن أكثر من عقدين من الزمان أضاعت فيها مئات من الملايين من الدولارات منذ أيام التجمع الوطني فى التسعينات ودفعت للعديدين أموالاً طائلة ولكن بلا جدوي، فالأمور فى السودان تختلف جذرياً عن دول عربية وأفريقية أنظمة الحكم فيها لا تتجاوز شخص الرئيس وحوله قلة من المنتفعين. من المدهش حقاً ألا يكون لدي واشنطن إلمام بطبيعة النظام القائم فى السودان والذى تجاوز المؤتمر الوطني ليتحول الى مجموعة أحزاب وقوي سياسية فاق عددها ال15 حزباً سياسياً بعضها كان وإلى عهد قريب فى مقاعد المعارضة. ومن المدهش أيضاً ألا يكون لدي واشنطن إلمام بطبيعة السياج الوطني السوداني المتشابك مع النسيج الوطني الى حد الإلتحام ومع ذلك ربما رأت وشنطن ان إهدار المزيد من المال لا بأس به. غير أن الاكثر مدعاة للدهشة هنا ليس فقط صمت المراكز والاشخاص الذين أشار اليهم الصحفي الأمريكي فى تحليله المطول ولم يسارعوا لنفي التهمة الشائنة عنهم فلربما يكونوا فى حاجة ماسة جداً لهذه الاموال وليس لهم من طريق آخر للحصول عليها فلا بأس من قبول (التكليف) وكسب الوقت ومسايرة واشنطن على غبائها! لربما كانوا يفكرون بهذه الطريقة فصاحب الحاجة – كما يقول المثل السوداني السائر – أرعن ! ولكن الذى يثير الدهشة حقاً فيما يخص متسلِّمي الأموال انهم يدركون – بحكم عملهم البحثي أن عملية إسقاط الحكومة السودانية أعقد مما تتصوره واشنطن، ومع ذلك قبلوا بالمهمّة وقبضوا المال مقدماً! ربما يعزِّي هؤلاء أنفسهم بأنهم سيكون لهم أجر المحاولة أو أنهم سيفعلون ما فى وسعهم ويدعوا الباقي لواشنطن! ولكن فى النهاية فإنهم غامروا مغامرة وطنية خطيرة بدخول هذا المضمار الاستخباري المتسخ لأنّ من الطبيعي ان تفضحم واشنطن عاجلاً أم آجلاً وهاهي قد فعلت، ففي الدولة العظمي هنالك مبدأ تقسيم الأدوار والتخصص وتقسيم العمل إذ ما أن تقوم جهة سياسية بتجنيد عميل وتحيطه برعايتها و (حنانها المالي) حتى تقوم جهة أخري هى من ذات صلب تلك الجهة بعمليات الفضح اللاحقة! والآن نحن أمام معضلة وطنية شائكة، فهناك من تسلّموا مالاً بغير وجه حق هو بالتأكيد مال غير وطني ولزموا الصمت أو ربما سارعوا الى ذات الجهة المانحة طلباً للحماية والستر! وواشنطن ما تزال تداهن الحكومة السودانية وتزعم أنها ليست معنية بإسقاطها؛ وبالطبع فإن الخرطوم التى ترقد على تل من التجارب مع واشنطن تعرف المدي الذى عليها ان تقف عنده فى تصديق الدولة العظمي وكيفية قياس مصداقيتها وما وراء ما تقول. ويبقي السؤال، اذا كانت واشنطن بحق لا ترغب فى إسقاط الحكومة السودانية وأنها لا تتدخل فى هذا الأمر كما زعم أكثر من مسئول أمريكي، لماذا إذن تهدر هذه الملايين -رغم كونها غنية- وفى الوقت نفسه تحرص على منع قطع الغيار عن الشعب السوداني وتحاصره إقتصادياً وتصدر ضده عشرات العقوبات والقرارات ؟ واشنطن دائماً مدهشة وغريبة الأطوار!