بدا وكأنّ واشنطن فى فهمها لطبيعة الأوضاع فى السودان ما تزال تقف عند نقطة قديمة تجاوزها التاريخ وهى تقديم المساعدة الماديّة من حين لآخر. الأمر هنا يبدأ وينتهي بمزاعم واشنطن المعروفة أنها تقدم الدعم للسودان حين يحتاجه، حتى لا يقول السودان ان واشنطن تقف منه موقفاً سالباً. فقبل أيام – وكما أوردت الأنباء – منحت واشنطن دعماً عينياً للسلطة الاقليمية لدارفور تمثل في معدات وأجهزة مكتبية بقيمة (100 ألف دولار أمريكي)! الدعم قدمه القائم بالاعمال الأمريكي بالخرطوم (جوزيف إستافورد) وشدد القائم بالأعمال الأمريكي فى الحفل الذى أقيم بهذه المناسبة – الخميس الماضي – على إلتزام حكومته بدعم السلطة الاقليمية فى دارفور خاصة فى مجال بناء القدرات والورش، وثمّن الدبلوماسي الأمريكي مجهودات السلطة الاقليمية للتحضير لقيام مؤتمر المانحين المزمع عقده بالدوحة فى ديسمبر المقبل. هذه الخطوة الأمريكية التى تعتبر فى الأعراف الدبلوماسية منحة رمزية بالنظر الى ما هو مطلوب من دولة عظمي مثل الولاياتالمتحدة حيال منطقة حيوية بها نزاعات، وسعت هى مراراً لحلّها، لا يمكن إعتبارها خطوة جيدة بالنظر أيضاً الى مواقف سابقة لواشنطن منذ التوقيع اتفاقية السلام الشاملة فى العام 2005م، مروراً بإتفاق أبوجا الخاص بدارفور مايو 2007 مروراً بإتفاقية أسمرا التي حلت أزمة الشرق 2007 ثم إجراء الاستفتاء بجنوب السودان عام 2011. ففي كل هذه الاتفاقيات والاجراءات السلمية الهامّة التى أنجزها السودان كانت واشنطن تعِد بالدعم والمِنَح، ورفع العقوبات والتطبيع مع السودان، وكانت وعودها سرعان ما تتبخر فى الهواء وتذروها الرياح ولا تشعر هي بأدنى حرج سياسي فى عدم الوفاء بما وعدت. لقد كانت واحدة من أهمّ العوامل التى عرقلت خروج السودان من أزماته عقب دخوله فى العملية السلمية الشاملة أنَّ أحداً من المانحين منذ مؤتمر أوسلو 2005 لم يفِ بوعده، وتعاملت الولاياتالمتحدة بغلظة سياسية غير مبررة فى التحلل من أيِّ إلتزام لها ؛ بل ولم تتوانى فى عرقلة وإلغاء المؤتمر الاقتصادي الخاص بالسودان فى العام الماضي لأسباب واهية . كيف يمكننا كمراقبين ان نضع دعمها ب(100ألف دولار) هذا للسلطة الاقليمية لدارفور فى محاذاة نقض وعودها السابقة؟ بل كيف يمكن أن نفهم دعمها لمؤتمر المانحين المقبل وهي دون شك إما أنها تحاول منذ الآن ربطه بأمور أخري بغية إفشاله حين يقترب موعده؛ أو أنها – ومنذ الآن – تستعد لكي يخرج المؤتمر بذات الوعود الفارغة السابقة. لقد كان من الممكن ان تسعي واشنطن طوال الفترة السابقة ومنذ توقيع اتفاقية الدوحة 2011 الى إقناع الحركات الدارفورية المسلحة – ترهيباً أو ترغيباً – للدخول فى العملية السلمية حتى تكون العملية شاملة ومن ثم يصبح الملف الوحيد الموضوع على الطاولة السودانية هو الملف السوداني الجنوبي فقط. ترى، من بوسعه أن يصدِّق أن واشنطن تدعم مؤتمر المانحين المقبل وهى تتلاعب بورقة النزاع المسلح فى دارفور وتدعم الحركات الدارفورية المسلحة عن طريق دعم ما يسمي بالجبهة الثورية؟ إن الأمر على هذا النحو يبدو مثيراً لذات الريبة والشكوك القديمة، وليس مستبعداً أن يكون أقصى ما قد تقدمه واشنطن فى مؤتمر المانحين هو ما قدمته فعلاً للسلطة الاقليمية فى شكل أثاث مكتبي فاخر!