بعد أشهر طوال من تسلمها منصبها خلفاً لسلفها سيء الصيت (لويس مورينو أوكامبو) قالت المدعية الجديدة لمحكمة الجنايات الدولية، الغامبية (فاتو بنسودا) إن مكتبها بصدد البحث فى إمكانية الدفع بتهم جديدة ضد مسئولين سودانيين! وقالت بنسودا فى أحدث تقرير قدمته لمجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي، إن محكمتها تدرس فى تهم جديدة لتوجهها ضد مسئولين سودانيين لم تكشف عنهم. ويأتي هذا التطور السالب – دولياً وليس فقط على مستوي القارة الإفريقية – فى وقت بدأ فيه العديد من القادة الأفارقة فى التفكير فى إمكانية سحب ثقتهم من المحكمة التى تبيّن لهم بعد ثمانية أعوام من التجارب البائسة أنها لم تكن فى الواقع سوى أداة سياسية استخبارية برع القادة الغربيين فى استحداثها لإعادة استعمار القارة الإفريقية, ومن المعروف أن مؤتمراً محضوراً ومحترماً عقد فى هذا الصدد بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا أواخر نوفمبر الماضي بمشاركة أكثر من 50 دولة افريقية خرج بتوصيات وملاحظات غير مسبوقة بشأن عمل هذه المحكمة والطريقة غير العادلة التي انتهجتها فى استهداف القادة الأفارقة. وعلاوة علي هذا المؤتمر فإن خبيراً قانونياً فرنسياً بجامعة السوربون شنّ هجوماً لاذعاً – الأسبوع الفائت – على المحكمة الجنائية الدولية واصفاً إياها بالأداة الطيعة فى يد مجلس الأمن الدولي يوجهها أنى شاء ومتى يشاء, وقال البروفسير (إدموند جيف) فى مؤتمر صحفي علي هامش احتفال كانت قد أقامته جامعة الخرطوم على شرف اليوبيل الذهبي للقسم الفرنسي بالجامعة إن المحكمة الجنائية تستهدف الدول الضعيفة دون سواها بهدف إضعافها سياسياً؛ وأنها - ومنذ إنشائها - لم تصدر أية قرار فى مواجهة أيّ من مواطني الدول الغربية. ولعل الأمر الأكثر مدعاة للأسف أن العديد من خبراء القانون كانوا قد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة خلال وجود المدعي العام السابق أوكامبو، والذي كانت شخصيته فى حد ذاتها أمراً مثيراً للتقزز كونه تورط فى مواقف وأخطاء شخصية لا تليق بمنصبه وكونه إرتضى لنفسه أن يصبح أداة سهلة لمن يوجهه من قادة مجلس الأمن والدول الكبرى. الآن فإن خليفة أوكامبو والتي كان يأمل خبراء القانون أن تختط نهجاً جديداً لإعادة الأمور الى نصابها خاصة بالنظر الى خلفيتها الإفريقية، غير أنها مضت فى ذات الطريق وذات النهج المؤسف وهو ما يشير دون حاجة الى أدلة إضافية الى أن المحكمة فى الواقع محكومة بقيود سياسية وأنها بالفعل أداة استغلال سياسي بشعة بصرف النظر عن من يتولى الإدعاء فيها، بل لا يغالي بعض خبراء القانون الأفارقة حين يقولون إن الغربيين وإمعاناً منهم فى إذلال الأفارقة واللعب معهم لعباً مشكوفاً وبأدوات مكشوفة فقد استجلبوا لهم مدعية عامة من بني جلدتهم! وعلى ذلك فإن المأساة لا تكمن هنا فقط فى هذا الوضع النشاز ولكنها تتجاوز ذلك الى عدة مؤشرات أكثر سوءاً، أولها أن محكمة الجنايات الدولية – وفق تصريحات المدعية – عازمة على ملاحقة الأفارقة وحدهم بأدوات افريقية وهو ما يُستفاد من أنّ الغربيين كشفوا عن خطتهم الرامية الى السيطرة على القارة الأفريقية بوضوح حين أنشأوا محكمة ظاهرها أنها محكمة جنايات دولية، ولكن باطنها وصميم حقيقتها أنها (محكمة خاصة بالأفارقة) على مستوي دولي. الأمر هنا لا يختلف كثيراً عن الأممالمتحدة التي أُنشأت –ظاهرياً– من أجل كل دول العالم ولكنها فى الحقيقة -وفق تكوين مجلس أمنها- لا مكان فيها للدول الضعيفة. ودوننا قرارات مجلس الأمن التى دائماً ما تأتي ضد الضعفاء ولصالح الكبار . المؤشر الثاني أن المحكمة الجنائية بطريقة أو بأخرى ومع أنها أنشأت بميثاق خاص منفصل ومستقل هو ميثاق روما 1998 ولا تتبع لمجلس الأمن أو الأممالمتحدة كما هو الحال بالنسبة لمحكمة العدل الدولية، فقد أصبحت من الناحية العملية أداة لمجلس الأمن. واللعبة هنا ماكرة، فمجلس الأمن هو الذي يحيل الدول أو المسئولين المُراد ملاحقتهم، والمحكمة تقبل على الفور وليس لها صلاحية الرفض. كما أن المجلس بعد ذلك يلزم المحكمة بأن تقدم له تقريراً دولياً عن سير إجراءاتها ومن لاحقت ومن اعتقلت ولماذا لم تفعل؟.. ليست هنالك محكمة فى طول وعرض الدنيا تقدم تقريراً لجهات سياسية أو أمنية بعملها أو تتسلم أوامراً من تلك الجهة لتعمل على ضوئها؛ يمكنك أن تسمي مثل هذه أي شيء، ولكن من المستحيل أن تسميها محكمة! وأخيراً فإن طبيعة حصول مكتب الإدعاء التابع للمحكمة على الأدلة هي أيضاً مسألة مثيرة للدهشة إذ لا أحد يعلم كيف يجري ذلك، كله يجري فى الخفاء والستر وتتداخل فيه التقارير الأمنية والاستخبارية مع تقارير المنظمات، وهو ما لا يمكن أن يبعث على الطمأنينة مطلقاً. وهكذا، فإن تجربة الجنايات الدولية فى الحقيقة هي أكثر التجارب الإنسانية المعاصرة بؤساً على الإطلاق!