رغم الثورة التكنولوجية الشاملة التي شهدها العالم، والطفرات الكبرى التي اختزلت تاريخاً بشرياً طويلاً في العلوم، إلا أن هاجس الأمن الغذائي وتوفير الحاجات الأساسية للناس، كان الشاغل الأهم بالنسبة للدول في جميع فتراتها. ولعل من مفارقات الاتجاه العكسي للزمن الذي عاشه ويعيشه العديد من البلدان العربية، التدهور الحاصل في قضية توفير الغذاء والناتج الزراعي لمعظم هذه البلدان، مقروناً بالمتغيرات الحداثية التي مر بها العالم. إن نظرة بسيطة للإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية في الناتج الإجمالي القومي العربي طيلة العقود الستة الماضية، منذ «مغادرة الاستعمار القديم» واستيلاء «حكومات وطنية» على الحكم في العديد من البلدان العربية، تصيب المرء بالدهشة والغثيان في آن. فبلدان كمصر وسوريا والعراق والسودان واليمن، كانت بمثابة سلّة غذاء للعالم العربي والإقليم على حد سواء أيام ذلك «الاستعمار»، وكان فائض هذه البلدان ينتقل ويصدر إلى أصقاع مختلفة من العالم، ومع «الاستقلال» والتطور التكنولوجي الحاصل في العالم، تدهور الإنتاج الزراعي والحيواني (الغذائي) إلى حدود غير معقولة، ويجاور هذا التدهور انفجار سكاني عربي ينبئ بمخاطر مستقبلية على الأمن الغذائي. لقد طبق بعض الأنظمة التي تسلقت الحكم في البلدان العربية «المتحررة» من الاستعمار، نظريات سطحية طغت فيها الشعارات على الحقائق والأرقام في قضايا توفير الغذاء والإصلاح الزراعي، وما إلى ذلك من قضايا ترتبط بحياة الناس ومعيشتهم المباشرة. وفي مثال بسيط يختزل كثيراً من الكتابة، يكفي العلم أن من بين 197 مليون هكتار صالحة للزراعة في العالم العربي، لم تجرِ الاستفادة سوى من قرابة 29% لغاية سنة 2010! وللعلم فإن النسبة المستصلحة والمستثمرة زراعياً في العالم العربي منذ 1952، لم تتغير إلا بفارق لا يتجاوز 7%، بمعنى أن ستة عقود من الزمن «الوطني» مع الانفجار السكاني، لم يتغير فيها على الجغرافيا الحقيقية شيء من تأمين غذاء الإنسان العربي وتأمين جزء من مستقبله، الذي أصبح وسيصبح في القريب العاجل، الخطر الحقيقي الذي يتهدد الكثير من الأنظمة التي تتعاطى مع نظريات طوباوية «لا تُسمن ولا تغني من جوع». المصدر: البيان 9/1/2013م