تقف أميركا على عتبة خفض قسري في النفقات العامة يبدأ بصورة تلقائية بموجب قانون تضمنته تسوية مؤقتة قبل أشهر في الأول من مارس المقبل، إذا تعذر التوافق بين الإدارة والكونغرس وبالذات مجلس النواب، على معادلة للموازنة. الخفض يطال المرافق كافة، والتحذيرات تتوالى من كل حدب وصوب. أقواها تلك الصادرة عن الجهات المعنية في البنتاغون، التي تحاول تصوير المس بالموازنة العسكرية وكأنه ضربة تهدّد بتدهور القدرة الأميركية. أو كأنها مجازفة استراتيجية، لا يجوز السماح بها. في حين يرى كثير من خبراء الدفاع أن مثل هذا التوصيف تغلب عليه المبالغة بقصد التخويف، وبالتالي الإبقاء على الأرقام الخيالية للإنفاق العسكري. خاصة على الأسلحة الجديدة التي " لا لزوم لها ". نبرة تهويل عشية الخفض، وبعد أسبوعين، تتعالى نبرة تهويل " بالمضاعفات الاستراتيجية " الخطيرة لتقليص النفقات العسكرية والتي ستتمثّل "باضمحلال سريع في المهارات والجاهزية القتالية للقوات، وبما يضعها في خانة " القوات الجوفاء " على ما جاء في كتاب رفعته البنتاغون إلى الكونغرس، أملاً في حمله على البحث عن تسوية تعفي الموازنة العسكرية من الخفض. تعبير مستعار من تصنيف حالة الجيش الأميركي بعد حرب فيتنام في أواخر السبعينات من القرن الماضي، ، عندما غادرت صفوفه أعداد كبيرة من الجنود الذين عزفوا عن التجديد لخدمتهم العسكرية. وقد أرفق هذا الكتاب وغيره بأرقام تبدو معها القدرات الأميركية وكأنها باتت مهددة بالشلل، فيما لو سرى عليه القطع وتواصل على مدى سنوات، فسلاح الجوّ سيشكو من " نقص في التدريب وساعات الطيران، بينما سيشكو السلاح النووي من ضعف الصيانة، إضافة إلى سلاح البحرية الذي تمّ تأجيل وقف تنفيذ بعض خططه، مثل إرسال حاملة الطائرات هاري ترومان ومجموعتها المرافقة لها إلى الخليج ، فضلاً عن تأجيل إعادة تزويد الحاملة أبراهام لنكولن بالوقود النووي وترميمها بسبب الكلفة العالية التي تزيد على 3 مليارات دولار ". عجزان مستعصيان تعيش أميركا عجزين مستعصيين، ماليا وسياسيا. وبذلك فهي مجبرة على خفض نفقاتها، ومنها العسكرية. لكن تقليص هذه الأخيرة يبقى بسيطا مقارنة بغيرها. لا تستحق الضجة المثارة حولها. تتأذى منها مصالح التصنيع العسكري وليس الأمن القومي الأميركي. حصة البنتاغون توازي سدس الموازنة الفيدرالية تقريباً. في العام الماضي جرى اقتطاع أقل من 500 مليار دولار على مدى عشر سنوات. وبموجب الخفض القسري سيتضاعف هذا الرقم. وحتى لو جرى هذا الخفض الأخير، تبقى الموازنة في حدود 530 مليار دولار، أي بما يزيد عن موازنات دفاع الدول المتقدمة مجتمعة. وهو ما كانت عليه الأمور عام 2007 والذي " كانت أحوال البنتاغون، في ظلها، على ما يرام" حسب المحلل وينسلو وييلر، في "مركز المعلومات الدفاعية " بواشنطن. فهي لا تحتاج إلى مخصصاتها الراهنة " لو شطبت الزوائد من مشترياتها العسكرية غير المجدية مثل المقاتلة القاذفة أف 35 المكلفة والمتعثر تصنيعها ". الخفض كيفما حصل، يخدم توجّه أوباما القائم على مبدأ " الحرب عن بعد"، أو ما قد يطلق عليه ب " مذهب أوباما العسكري". عماده طائرة "الدرون" والعمليات الخاصة والخاطفة. ومع أن هناك جدلا واسعا في واشنطن الآن، حول الطائرة ومحاذير التعويل عليها، إلاّ أن ميزتها من حيث خفض الكلفة، تجعلها البديل الساري والمطلوب لإشعار آخر. وهي مفضّلة حتى لدى المؤسسة العسكرية التي تقاتل للحفاظ على موازنتها الهائلة. ثم أن المذاهب العسكرية كانت عرضة للتغيير والتبديل بتغير الظروف والرؤساء. الرئيس الأسبق جيمي كارتر جاءت إدارته بمذهب "التدخل السريع " القائم على سرعة التحرك والانتقال إلى ميدان المعركة. تشكيلة من صفوة القوات الأربع، البحرية والجوية والمشاة والمارينز، لمواجهة الأوضاع في الشرق الأوسط في أعقاب حرب 1973 وأزمة النفط في العام التالي. نقص التمويل تركها معلّقة حيث لم تدخل حيز التنفيذ إلاّ في مارس 1980. مع عهد ريغان ، استبدلتها البنتاغون عام 1983 بما عرف ب" قيادة المنطقة الوسطى "، أي القوات المخصصة لأزمات الشرق الأوسط وآسيا الوسطى على اعتبار أن قوس الأزمات بات يشمل كل هذه الرقعة الجغرافية. تدبير انتهى بأكثر من مغامرة عسكرية مكلفة، اكتوت بها أميركا. وبالتحديد حرب العراق، التي يضعها الأميركيون، باستثناء بقايا المحافظين الجدد، في خانة الحرب العبثية غير اللازمة التي تعهد أوباما ليس فقط بإغلاق صفحتها بل أيضاً " بعدم تكرارها ". وتأتي أزمة الموازنة لتخدم مقاربته. ولكن ليس بالضرورة لتحول دون نشوب مواجهات عسكرية، بحجم أو بآخر. المصدر: البيان 17/2/2013م