من الأشياء التي تقفز إلي ذهن المرء وبمنتهى التلقائية حينما تذكر منطقة (ابيى)، وهي تلك المفارقات الغريبة التي تخرج من مثل هذه المعلومات والبيانات التي يقدمها المطلعون علي حقيقة واقع الحياة اليومية فيها علي الأرض، من حيث عدد السكان(من المسيرية) وفي الجانب الآخر(دينكا نقوك) وبقية القبائل الاخري التي تتعايش فيها منذ سنوات طويلة، وتبدو الصورة قاتمة لحدما تجاه هؤلاء السكان شمال بحر العرب التي توجد وسطها (حقول النفط) الغنية وما يحتاجونه من خدمات ومتطلبات بنية تحتية متكاملة. ذكر مفوض سابق للعون الإنساني بمنطقة ابيى هو الأستاذ امبدى يحي كباشي، أن هناك حوالي(14) مدرسة يوجد بها فقط(5معلمين) يتبعون لوزارة التربية والتعليم وفي مناطق المجلد والدبب والميرم وغيرها حيث يقطن أكثر من(110) ألف من المسيرية ولا توجد وحدة صحية عاملة لمقابلة الحاجات الصحية والعلاجية، وتم تغيير النظام التعليمي والخدمي الذي كان سائداً بعد مايو2008م للأسباب المعروفة والتي ترتبط باتفاقية السلام الشامل والتدويل الذي تم لقضية المنطقة. ويرجع سبب التدهور الاقتصادي في منطقة ابيى لوجودها متنازعة من الناحية السياسية ولبعد هذا التنازع عن أهل المصلحة الفعليين من إدارات أهلية ومجموعات قبلية منتظمة في مناطقها وهياكلها الإدارية التي لم تخض في هذا الصراع السياسي منذ بدء ما عرف لاحقاً بحرب الجنوب في انطلاقتها في 1983م وحتى 2005م في العام الذي تم فيه وضع اتفاقية السلام الشامل، لتدخل إليها المليشيات وناقلات الجند بعد ثلاثة أعوام من هذا التاريخ. وجود النفط وحقوله في دفرة وبليلة وميكنيس وغيرها من الحقول الاحتياطية التي لم يتم تشغيلها بعد، كان متغيراً كبيراً ومؤثراً، ظهرت نتائجه فوقياً علي مستوي موازنات دولتي السودان، إلا أنها لم تظهر مطلقاً علي حياة السكان في المنطقة في مجال الخدمات، بمعني أن المسؤولية الاجتماعية لشركات النفط تجاههم لم تتعد جوانبها النظرية والمجاملة، فأصبح هناك (عالمان مختلفان) في هذه المنطقة من حيث الطبيعة والخصائص، الفقر ونقص الخدمات من جهة وأموال البتر دولار من جهة آخري. وبالنظر لما يثار عن استفتاء سيقام هناك في أكتوبر القادم فإن الرؤية السياسية التي تنطلق منها هذه الدعاية المصاحبة لعدم شمالية أو جنوبية ابيى، لا تتم وفقاً لموجهات عمل سياسي جري إعداد عناصره علي الأرض وفقاً لرأي الكثيرين هناك وعلي رأسهم (الأمير حمدي الدودو إسماعيل- أمير قبيلة المزا غنة) وآخرين، ويرجع ذلك لعدم سماع صوتهم والعمل بما تم رفعه فقط من الطرف الآخر من جيرانهم من الناحية الجنوبية لبحر العرب في إشارة لدينكا(نقوك). وتثار مشكلة مياه الشرب منطقة ابيى شمال حدود 1956م في مناطق المسيرية في أن القوات الأممية (يونسفا) لا تنشط فيما يتعلق بترتيبات وضع الاستقرار في (البوكس أو الكيلو10) منطقة مسؤوليتها بفتح الدوانكيى أو العمل علي إعادة تأهيلها، ويوجد بالمنطقة حولي (32دونكي) يتوافر منها خدمة في (5دوانكي) فقط، مما يعرض الرحل والرعاة وكثير من الأسر للاضطرار لشرب مياه (راكدة)، وبحسب شهادة قائد القوات الأممية هناك بأنها (غير صالحة للشرب). ويتكرر حديث دائم عن الاستفتاء في منطقة ابيى، وخصوصاُ الضغوط الأمريكية التي تحدثت عن ضرورة قيامه في أكتوبر القادم، ويقول الأمير حمدي الدودو إسماعيل (أنهم يرفضونه جملة وتفصيلا) لأنه يقوم علي رؤية سياسية انتهازية غير (أخلاقية) تفتقر للعدالة في توصيف التركيبة السكانية بالمنطقة والتي تم اختراقها سابقاً بمقترح المبعوث الأمريكي الأسبق(دانفورث) بمقترحه الذي يرجح (التحكيم) وفقاً لخارطة ووثائق تعود للعام (1905م). منطقة أبيى التي تبلغ مساحتها حوالي 10.480كيلومتر مربع تدار من خلال لجنة تسييرية تم تشكيلها قبل عامين ويرأسها السيد الخير ألفهيم، تدار من الخرطوم (العمارات ش 15)، ويعزي عدم توفر الخدمات الأساسية هناك لعدم تواجد هذه اللجنة علي الأرض في المنطقة، كما أن السرقات المتبادلة (الأبقار) ما بين الأطراف المتعايشة في المنطقة والأضرار المادية التي نتجت عن حريق سوق المدينة الرئيسي لأكثر من مرة، خلفت خسائراً فادحة أوجدت (جواً مشحوناً وخانقاً) بين هذه الأطراف من جهة وبينهم وقوات (اليونسفا) من جهة أخري. ومن الأشياء التي يمكن أن تكون (كلمة مفتاحيه) لفهم العلاقة المضطربة ما بين (شركات النفط وسكان المنطقة) أن فارقاً اقتصادياً واجتماعياً تمخض عن (غبن كبير) فيما يتصل بحاجة الأهالي للاستقرار الذي لا تتوفر عناصره، لان التغيير الاجتماعي الذي جاء طارئاً بسبب تدفق البتر ودولار وكل مايتصل بهذه الصناعة (الثقيلة) يتطلب استعداداً ليس اقله (التدريب) أو تنشيط(عملية التعليم) واستيعاب أبناء المنطقة في (الوظائف والتشغيل)، وإنما يمتد إلي (المعالجات الاجتماعية) المفتقدة. لذلك فان حادثة (تفجير الأنبوب) بحقل دفرة الغني في منطقة (عجاجة) والتي تحدث عنها الدكتور عوض الجاز في مؤتمره الصحفي الجمعة14يونيو2013م، لن يكون الحادث الأوحد والشاذ، حيث أن التدخلات الأجنبية الضاغطة باتجاه (عزل مناطق) منزوعة السلاح خارج الرقابة الحكومية يوفر فرص للتجاوز وكل إشكال (التمرد)، مما يدعم رفض بعض أعيان قبيلة المسيرية والطعن في (أممية وكلية)لأي هذه القوات الأممية، حيث تعمل المنظمات وتصرف أموال طائلة في المنطقة جنوب بحر العرب فقط. وحتى لا يستيقظ الأهالي في منطقة ابيى ، خصوصاً في مناطق المسيرية والقبائل الاخري التي تتعايش معها علي (منادى) الاستفتاء علي المنطقة علي حين غرة، تعلو(مطالبات جادة) بان يتم فتح ملف (التنمية والخدمات) هناك علي أساس عادل، يمكن أن يؤكد في (القريب العاجل) فرضية عكسية لما يشاع عن أن (حكومة الجنوب تمد يدها لأولئك الذين تم فصلهم من المسيرية من العمل في حقول البترول) للعمل في الجنوب، وتعيد هذه الحالة فكرة عن تجربة(الوحدة الجاذبة) التي بدأت متأخرة لحد ما في فترة سابقة. ويبدو أن تجربة الانفصال المريرة التي حدثت بعد استفتاء 2011م وذهب بموجبها إقليم جنوب السودان لتقوم عليه دولة أخري، فتحت أبوابا للعصف الذهني بين أبناء منطقة ابيى الذين يتمسكون (علمياً) في شرح أسباب رفضهم لأي استفتاء مزمع قيامه في منطقتهم بالنموذج الصحراوي (البوليساريو) والنموذج الهندوباكستاني في إقليم (كشمير) بأنه لا توجد عناصر مقارنة تستحق أن يجري عليها (اقتراع) حيث أنهم يتحدثون باستمرار عن (ملكيات تخصهم في هذه الأرض) بعيدة عن التسييس الخداعي والتمرير). قد تختلف وجهات النظر حول الواقع المعاش في منطقة ابيى بين الأطراف المعنية في موضوع الاستفتاء، لكن لا احد يعترض علي أن مسؤولية الحكومة المركزية في الخرطوم تجاه السكان شمال حدود 1956م بمختلف مكوناتهم تظل قائمة، وان هناك حاجة لمشروعات تنمية عاجلة(في الحد الادني) علي الأقل فيما يتعلق بالخدمات ومقومات الحياة الأساسية، وهي احتياجات لا يمكن إرجاءها لأي زمن آخر. نقلا عن صحيفة الأهرام اليوم 20/6/2013م