بدأت الموجة الاولى للاستعمار القديم على يد بريطانيا بغزو العراق واحتلال البصرة في العام 1914 والامتداد تدريجيا لاحتلال بغداد في العام 1917 بعد اكتساح الحامية التركية حينها ، وصولا الى احتلال الموصل في العام 1920 وكان ذلك بداية السيطرة على المنطقة وتمزيق المشرق العربي عبر اتفاقية سايكس - بيكو التي ابقت على العراق موحدا ليكون قاعدة ارتكاز لربط المنطقة بالغرب. وبدهاء الانكليز امكن بناء دولة قوية موالية لهم ابتداء من العام 1921 ، ورغم ان تجاذبات الحرب العالمية الثانية قد زرعت بشكل محدود نفوذ بريطانيا التي خرجت منهكة من الحرب العالمية الثانية وورثتها امريكا التي بدأت هجمتها على المنطقة باحتلال العراق كمنطلق لمشروعها الامبراطوري الذي يريده هنري كيسنجر احد منظري السياسة الخارجية الامريكية وابرز صانعيها في مراحل سابقة حيث يعتقد كيسنجر انه لا بد ان يكون بامريكا دور مهم ونهائي ثابت في احداث تطور معتدل وخلق توازن سياسي محلي وخارجي في العراق وخاصة توازن استراتيجي مع ايران ، وبدون هذا التدبير يرى كيسنجر ان المنطقة تندفع نحو مخاطر غير محدودة لانها تقع فوق كومة متفجرات. وفي آخر مقال له ، يرى كيسنجر ان امريكا يجب ان تظل حاضرة بقوة بعد الانسحاب من العراق وتحقيق الهيمنة بوسائل اخرى وهكذا يقرع كيسنجر ناقوسا كان قد قرعه من قبله بعض المختصين المستقلين الوطنيين العراقيين ، فالانسحاب الأميركي سوف لن يغّير من جيو - استراتيجية العراق حتى مع تغيّر السياقات. ويستطرد بالقول أن العراق ، وهو ميزوبوتيميا ، أي بلاد ما بين النهرين ، له موقع استراتيجي مركزي لكل المنطقة منذ آلاف السنين ، وان مصادر ثرواته لها تأثير بالغ على بلدان بعيدة. ويضيف بأن التقسيم بين العالمين السّني والشيعي يمر عبر العراق - حسب تعبيره - وهو خط ليس مرسوما في الهواء ، وإنما موجود الآن حي يرزق على الأرض ، بل وان بغداد اليوم تمّثل مركزية ثقله ، بمعنى أنها الفاصلة بين عالمين اثنين. أما المحافظات الكردية في شمال العراق التي تنعم باستقرار نسبي ، فان اضطرابها هو انعكاس لوجودها بين تركيا وإيران ، وهما خصمان لدودان يتنافسان منذ القدم على العراق. وعليه ، فان من الغباء إبقاء العراق في حالة فراغ أمام عدة صراعات مصيرية،. وينبه كيسنجر عن عدم احتمالية جعل العراق ينعزل عن حقيقة الصراع الذي يمتد بواسطة ما اسماه ب"جهاد الثورة الدينية"، وفي رأيه ، فان الحسم سيكون في العراق ، وسيتأثر التوازن السايكلوجي في الحرب المعلنة ضد الإسلام الثوري - حسب تعبيره - خصوصا عندما يسود الاعتقاد بأن الانسحاب الأميركي من العراق هو التراجع الأميركي عن كل المنطقة وعدم تحمّل أعبائها، إن العراق اليوم ، لم يعد مادة حية للنقاشات السياسية الأميركية. وفي الوقت نفسه ، هناك اهتمام ميداني ببلدان أخرى تعيش ظروفا حرجة باستثناء العراق. ويرى كيسنجر ان تطور العراق سوف يساعد في تحديد علاقة أميركا بالتيارات التي ستحكم المنطقة مستقبلا. وهنا ، ينبغي على إدارة أوباما أن تعيد استكشاف طريقها ، لجعل العراق يستمر في لعب دور مهم في الإستراتيجية الأميركية. ليس من الضروري قيام المسؤولين الأمريكيين الكبار بزيارات قصيرة إليه ، ولكنهم عمليا بحاجة إلى مفهوم استراتيجي لكل المنطقة ، فهي مهمة جدا ، ولكن يهددها الشبح الإيراني بشكل متزايد،. يطرح كيسنجر حلوله ، إذ يطالب ببناء "توازن في العراق إزاء إيران" ، مؤكدا ان إعادة حقائقه الجيوبوليتكية تمّر من خلال توازنه الداخلي بين أبناء مكوناته من دون هيمنة طرف على طرف آخر. إذ تلك الهيمنة خلقت اضطراب التوازن مع إيران ، وخصوصا من قبل أصحاب العلاقة القديمة معها ، وهم يحكمون اليوم بديمقراطية جزئية على حد قوله، إن "تراصفهم مع طهران ضد الداخل ، سينتج عنه تحول جذري في ميزان المنطقة ، نكون نحن الاميركان وراء حصوله". ويعتقد كيسنجر أن تلك الحصيلة التي ستحدث في العراق ، "ستؤثر عميقا على منطقة الخليج.. فضلا عن لبنان الذي تعشش فيه دولة ممّولة إيرانيا في داخل دولة"، ويتجاهل كيسنجر في مقاله حقيقة ان العراق كان يمثل قوة توازن في المنطقة بموازاة ايران الى ما قبل الحرب عليه ، لكنه ضمنيا يشير الى انه يريد العراق قويا كأداة بيد امريكا ، وهو ما يسهل ايضا احتواء ايران وبالتالي الهيمنة على المنطقة كمنطلق للهيمنة الامبراطورية الامريكية المنفردة على العالم. المصدر: الدستور 18/3/2010