كان ما يعرف بالجيش الثوري يحمل مقصلة متحركة لجز الرؤوس, وأتاح قانون أصدرته الفصائل الشعبية المتطرفة باسم قانون المشبوهين اعتقال وإعدام أي شخص يتهم بالعمل ضد الثورة, وفي نوفمبر 1793 تم قطع رؤوس 32 ضحية في أقل من نصف ساعة, وبعد أسبوع قطعت رؤوس اثني عشر رجلا في خمس دقائق فقط, وتقول المصادر إن لوثة القتل أغرت المرضي النفسيين والمنحرفين الساديين بإشباع هوايتهم في القتل, وكانت المحاكم بلا شهود, والحكم صنفان إما البراءة وهي أمر نادر أو الإعدام, وسرعان ما ارتفع عدد المحكوم عليهم بالإعدام إلي ثلاثين مواطناً يومياً, هذا هو السيناريو في أحداث الثورة الفرنسية التي اقتلعت النظام الملكي ونفثت غبن المحرمين ضد النبلاء عبر فوضي أطاحت رؤوس عدد كبير من الأبرياء, هذه الصورة المأساوية بالطبع وان كانت رهناً لظروف تاريخية معينة لا توجد الآن في كل العالم بنمطها القديم لكن من الممكن أن يتكرر السيناريو الهمجمي في ظروف مختلفة ويقول المراقبون إن انفصال الجنوب ربما أعاد شيئاً من هذا الشريط ضد الشماليين بعد الانفصال أو حتي ضد شماليي الحركة الذين انضموا إليها بمن فيهم رموز بارزة ارتبطت بها تاريخيا منذ أن بدأ تمرد الحركة في العام 1983م. وبالطبع فان الجنوبيين لا تحركهم الأحقاد ضد الشمال لكن تكريس المفاهيم السالبة منذ الاستعمار كان له تأثير علي العقل الجمعي مما ولد قدرا من الغبن والمرارات المستبطنة, ويقول خبراء النفس إن همجية الغوغاء ليست نتاج تعبئة ظرفية طارئة لكنها في الغالب وليدة تراكمات سابقة شكلت وعيا معينا لدي هذه الشرائح رغم أن الانفعال الظرفي له تأثيراته لكنه لا يصل عادة إلي مرحلة إسالة الدماء بطرق وحشية وممهجة. ويري المحللون أن إسقاط الفوضى الدموية علي الواقع الجديد في جنوب السودان بعد الانفصال أمر ليس مستبعداً, ويستشهدون بأحداث توريت 1955 ضد الشماليين, فقد كانت نتاجا لسياسية منهجية من الاستعمار الانجليزي الذي كرس لسياسة العداء والتفرقة ضد الشماليين في الوعي الجمعي الجنوبي آنذاك, حيث شهدت الأحداث الدامية مجازر بشعة لم يتورع فيها المتمردين الثائرون عن قتل حتي الطفل الرضيع بضربه علي الأرض حتي الموت واعتبرت أقلام أجنبية محايدة أن ما جري هناك يعد ضربا من أنواع التطهير العرقي وفق مواصفات الأممالمتحدة, كما جرت أحداث عنف ضد الشماليين في العاصمة في الستينيات لكنها كانت محدودة عقب إشاعة مقتل الزعيم الجنوبي ازبوني منديري ثم الأحداث الدامية الواسعة التي جرت في الثاني من فبراير 2005 في أجزاء واسعة من العصمة قتل فيها عدد من الشماليين وتميز بعضها بالبشاعة حيث قتل شيخ حرقا بعد أن قذف به الثائرون وسط حصير مشتعل ولم يتم التعرف عليه إلا لاحقا إلا من خلال طقم أسنانه, كما تم نهب العديد من المتاجر وحرق العشرات منها بما فيها الصيدليات والمراكز الصحية قبل أن يقوم عدد من الشماليين بحملة انتقامية في يوم الثلاثاء حدثت فيها العديد من التجاوزات حتي تمكنت قوي الشراكة والأمن من السيطرة علي الموقف وتهدئة الخواطر.. ولعل ثقافة تكريس العداء ضد ما عرف لاحقا بدولة الجلابة التي يقول أصحابها إنها ظلمت الجنوبيين واضطهدتهم وسلبت حقوقهم الاجتماعية والسياسية وكرست الفقر والجهل في الجنوب لم تكن رهينة بالعامة وحدهم بل حتي كثير من الصفوة الجنوبية بمن فيهم السياسيون البارزون الآن في الحركة الشعبية وهو ما عبر عنه باقان أموم كثيراً منذ سنوات ففي العام 2007 في محاضرة بعنوان لماذا السودان الجديد قال (إن مشروع السودان الجديد محاولة لإزالة دولة الجلابة الفاشلة حاليا والآيلة للانهيار, كما وصف مقولة إن العباس أتي إلي السودان وتزوج افريقية بأنها تمثل الأسباب الرئيسة التي قادت للمشكلة. ربما هذه الثقافة السابلة جعلت السلطات في الجنوب تغض الطرف عن ملاحقة العديد من التجاوزات ضد التجار الشماليين هناك, والتي أدت إلي قتل عدد منهم خلال السنوات القليلة الماضية, ففي أغسطس الماضي فقط قتل أربعة تجار حسبما تقول المصادر الصحافية. شماليون داخل الحركة وعندما أبرمت اتفاقية نيفاشا للسلام التي أنهت الحرب النظامية بين الطرفين لمدة عقدين من الزمان تقريبا وجاء إلي البلاد زعيم الحركة العقيد جون قرنق اصطفت أعداد كبيرة من المستقبلين في الساحة الخضراء من بينهم أعداد مقدرة من الشماليين, وأعتبر وقتها قرنق أن الحضور الكبير الذي قدره بعدة ملايين استفتاء مبكر, وقد كرر هذه المقولة خطابه بيد أن العديد من المراقبين يرون أن جل المستقبلين خاصة من الشماليين جاءوا بدافع الفضول لرؤية رجل قاتل الحكومة عقدين من الزمان وتحول من متمرد الي مشارك رفيع في السلطة, كما أن بعضهم كان أسيرا لبعض المواقف من الحكومة سيما من الذين طالهم سيف الصالح العام وبعضهم لهم ومواقف سياسية تتقاطع مع النظام الإسلامي لكن تفجر أحداث الاثنين الأسود ثم التعاطي السياسي السلبي للحركة خصم كثيرا من رصيدها الجماهيري لدي الشماليين بل عدد مقدر من الجنوبيين الذين أحبطوا من تفشي الفساد في الجنوب والسياسية الانتقائية ذات الطابع القبلي ومسلك الجيش الشعبي تجاه بعض مواطني الجنوب والذي انتقدته حتي أقلام صحافية تابعة للحركة الشعبية, وحتي الآن ليس واضحا أن الكوادر البارزة التي انضمت للحركة في وقت سابق ما زالت علي ذات الحماس من التأييد لها, فمن هذه الكوادر الواثق كمير وياسر جعفر وكمال الوسيلة والهادي الرشيد وغيرهم لكن هناك كوادر شمالية تحتل مناصب قيادية بارزة داخل الحركة وليس بالطبع من المنتظر أن تغادر الحركة مثل ياسر عرمان وعبد العزيز الحلو, لكن التساؤل الملح هو: ما مصير الكوادر الشمالية البارزة بعد الانفصال؟ هلي سيبقون في الشمال منافحين عن الحركة أم أنهم سينضمون للحركة في وطنها المستقل الجنوب؟ وفي الحالة الأخيرة هلي سيتمكنون من الاندماج والانصهار مع مواطني الدولة الجديدة رغم المرارات والمفاهيم السالبة المتوارثة تجاه الشمال أم أنهم سيدفعون ثمن هذه الإسقاطات؟ والتي ربما كان أقلها هو (قطع الأضان بعضة سنينة) كما حدث لياسر عرمان قبل ذلك في الجنوب!!. نقلا عن صحيفة الانتباهة السودانية 9/11/2009م