يثير الصراع المسلح المحتدم في دولة جنوب السودان بين الأطراف الأساسية التي خاضت سابقا الحرب ضد الشمال، قبل أن تحصل على استقلال الجنوب، وتولد الدولة الجديدة، الكثير من الأسئلة حول خلفياته ودوافعه الحقيقية، هل هو صراع سياسي حول السياسات الخارجية المتبعة من قبل الرئيس سالفاكير؟. أم هو صراع على السلطة والنفوذ واقتسام الثروة؟. وبالتالي ما هي آفاق هذا الصراع هل ستنجح الوساطة الخارجية من قبل الدول الغربية في احتوائه وتنظيم الخلاف والتوصل إلى اتفاق مصالحة يرضي الجانبين؟. أم أن الأمر سيكون معقداً، وليس بهذه السهولة، ويرشح احتمال توسع الصراع واستمراره لفترة طويلة إلى أن يتحقق واحد من احتمالين، إما إنهاك الطرفين ونضوجهما للحل الوسط؟ أو انتصار طرف على آخر؟ صراع على السلطة والثروة بالنظر إلى أسباب تفجر الصراع بين الرئيس سالفاكير زعيم اكبر قبيلة، الدينكا، ونائبه اريك مشار زعيم ثاني اكبر قبلية، النوير، يمكن القول أنه ليس له بعد سياسي، فالطرفان لهما علاقات حميمة مع الدول الغربية والكيان الإسرائيلي، ولم يظهر أن مشار قد أعلن عن وجود خلاف بشأن علاقات سالفاكير الخارجية وقيامه بزيارة تل أبيب بعد إعلان دولة الجنوب. ولهذا فان كل الدلائل تؤكد ان أسباب الصراع تعود إلى الصراع على السلطة والثروة وطريقة إدارة سالفاكير للحكم وسعيه إلى مواصلة احتكار السلطة، وعدم وفائه بتعهداته بإفساح المجال لمشار في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ليأتي رئيساً في إطار اتفاق سابق بينهما على تداول السلطة أعقب الإعلان عن قيام الدولة في الجنوب، فيما العديد من القبائل الاخرى أيدت خطوة مشار في التصدي لسياسة سالفاكير وقيادة التمرد ضد سلطته، واتهامه بمحاولة تنظيم انقلاب ضد حلفاء الأمس. والى جانب الصراع على السلطة هناك أيضا وجه آخر للصراع، ويكمن في شعور العديد من المناطق بالحرمان والبؤس وعدم استفادتها من عائدات الثروة التغطية بما فيها المناطق التي يتم استخراج النفط منها مثل مدينة بور. توقيت انفجار الصراع ومخاطر توسعه على أن توقيت تفجر الصراع على هذا النحو مرتبط باقتراب موعد استحقاق الانتخابات الرئاسية حيث تبين لمشار سعي سالفاكير إلى الانقلاب على اتفاقه معه، وتوفير الظروف لإعادة انتخابه من جديد، وهو ما اثأر حفيظة مشار وتدفعه إلى إعلان تمرده المسلح، ويعكس ذلك سعي سالفاكير للاستئثار بالسلطة والثروة وإبعاد الآخرين عن المشاركة، ولهذا طلب سالفاكير دعم النظام في أوغندا لمواجهة مشار ومساعدته على احتواء تمرده والقضاء عليه، وصولا إلى تمكينه من أحكام قبضته على الحكم قبيل الإجراء الانتخابات. ويبدو أن أوغندا، التي لبت طلب سالفاكير، لها مصلحة في ذلك لأنها قلقة من امتداد الصراع إلى أراضيها بسبب التداخل بين القبائل واحتمال استفادة المعارضة الأوغندية من هذا الصراع في مواجهة نظام الحكم، وموقف الدول الأفريقية المحاذية لجنوب السودان لا يختلف عن موقف أوغندا، ولذلك تشعر هذه الدول بالقلق من المخاطر التي يشكلها استمرار الصراع وتوسعه على الاستقرار والأمن في عموم دول المنطقة، وهو ما قد يؤثر أيضا سلبا على عملية استخراج وتصدير النفط من الجنوب، إلى جانب احتمال تهديد أمن البحر الأحمر الذي تعبر منه ناقلات النفط والسفن التجارية، ومن والى منطقة الخليج، إلى أنحاء العالم، وهو ما أثار قلق الدول الغربية، ودفعها إلى التحرك لاحتواء الصراع وضبط الوضع وايجاد حل بين الطرفين المتحاربين. من هنا يبدو أن الصراع على السلطة والثروة يشكل خطراً ليس فقط على شعب جنوب السودان الذي يعاني، الفقر والحرمان والبؤس، وإنما يهدد بالخطر أيضا أمن واستقرار أنظمة عديدة في المنطقة، ومصالح دول كثيرة وقفت وراء دعما انفصال الجنوب عن شماله، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة الاميركية، وفرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني. لهذا كله تحركت هذه الدول لممارسة الضغط على طرفي الصراع للجلوس إلى طاولة التفاوض في أديس بابا والعمل على إيجاد حل يضع حداً للحرب بينهما. آفاق الصراع من الواضح أن مفاوضات أديس أبابا كشفت حجم التعقيدات التي تواجه لايجاد حل للازمة، فرغم الاتفاق الذي تم وخلق أجواء من التفاؤل،لكن سرعان ما تعطل تنفيذه عندما رفض سالفاكير إطلاق المعتقلين من أنصار مشار، تحت ضغط الجناح المتشدد في الحكم، الذي يرى في اطلاقهم اذعانا للمتمردين يقوي من شوكتهم ويضعف من وزن وتأثير الحكومة. ورغم رسائل الضغط الاميركية بفرض حصار لإلزام الجانبين بالتهدئة وسلوك طريق التفاوض إلا أن كل المؤشرات تظهر أن الصراع مرشح إلى التصاعد والاستمرار، طالما أن سالفاكير وفريقه الحاكم يرفضان تقاسم السلطة، والثروة مع بقية الفئات السياسية والقبلية في الجنوب، والتي تعتبر أنها مهمشة ومحرومة. وهذا يعني أننا أمام صراع سيطول ريثما يصل إلى نتيجة من اثنتين: إما وصول الطرفين إلى مرحلة من الانهاك ونضوجهما للحل الوسط. أو انتصار طرف على آخر بفرض سيطرته وحسم الصراع لمصلحته؟. غير أن من يدقق في واقع الجنوب لا بد له وأن يلاحظ مستوى وحجم التعقيد الذي يواجه الحل، وينبع ذلك من غياب مؤسسات دولة، لان الدولة لا تزال في طور التكون وليس هناك بالأصل تقاليد مؤسساتية، والدولة الوليدة فرضت قسراً بدعم خارجي في سياق مخطط تقسيم وتفتيت السودان وإضعافه، وفرض السيطرة الغربية الصهيونية على مقدراته وثرواته النفطية والمائية والمعدنية. وما يزيد الطين بلة أن الصراع على السلطة والثروة يغذيه الصراع القبلي والاثني الذي تعود جذوره إلى عقود طويلة حيث يوجد في الجنوب ما لا يقل عن الثلاثين قبيلة والعديد من الاثنيات، ما يزيد من احتمال انزلاق الأمور نحو مزيد من التشرذم والانقسام القبلي واحتدام الصراعات المسلحة في ظل عدم نجاح تجربة بناء دولة قادرة على أن تكون إطارا جامعاً يعبر عن مصالح جميع فئات السكان. وهذا ما يطرح السؤال بشأن ما إذا كان بالإمكان استمرار كيان جنوب السودان خاصة وان التجربة حتى الآن أكدت انه غير قادر على حكم نفسه بعيدا عن الدولة المركزية، لان الديمقراطية المستوردة من الغرب لا يمكن أن تسود في مناخ الفقر والحرمان والصراع القبلي والاثني. فيما احتكار السلطة من قبل قبيلة سيكون كافيا لتفجير صراع لا ينتهي، فالاستقرار لا يتحقق إلا إذا توفر مشروع نهضوي يحقق التنمية والعدالة وينقل البلد من مرحلة ما قبل الدولة إلى مرحلة الدولة والمؤسسات، وهو ما يفتقد إليه جنوب السودان حتى الآن. المصدر: الوطن القطرية 25/1/2014م