بعد قتال محتدم استمر زهاء أربعة أشهر، بدا واضحاً أن الأوضاع في جنوب السودان تسير من سيئ إلى أسوأ، خاصة بعد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، ووصول المفاوضات بين الرئيس سلفاكير ونائبه المقال رياك مشار إلى طريق مسدود، وتنافس الأجندات الخارجية، واتساع نطاق الكارثة الإنسانية، وتنامي احتمالات انهيار الدولة الوليدة، قبل اكتمال عامها الثالث . المفاوضات التي بدأت بسقف مرتفع جداً بين الحكومة والمتمردين، والتي سارت ببطء شديد، وبشكل غير مباشر، خاضت دروباً وعرة، لتسفر في النهاية عن اتفاق لوقف إطلاق النار، جرى توقيعه في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي . بيد أن اتفاق السلام لم يصمد طويلاً، إذ سرعان ما انهار قبل أن يجف الحبر الذي كتب به . لذا استمر القتال بين الجانبين، ليغطي معظم ولايات جنوب السودان العشر، فيما أصرّ كل طرف على تحميل خصمه المسؤولية عن خرق الاتفاق . في هذا الإطار استولت قوات مشار على مدينة ملكال الإستراتيجية، عاصمة ولاية أعالي النيل، وثانية كبرى مدن البلاد، بينما طالبت حكومة جنوب السودان المجتمع الدولي بإدانة تلك الخروق، مؤكدة احتفاظها بحق الرد عليها . والواقع أن انهيار اتفاق السلام كان متوقعاً . فهو لم يعالج أسباب الصراع، مكتفياً بمواجهة أعراضه فحسب . إذ كان الاتفاق أقرب إلى تكتيك يستهدف كسب الوقت، واستكشاف النيات، وتدعيم التحالفات المحلية والإقليمية، لخوض جولات جديدة من الصراع، في ظل ضعف الثقة المتبادل بين الجانبين، ووطأة الضغوط الخارجية، والخوف من التعرض للعقوبات . وفي محاولتها لاحتواء الموقف، وإنقاذ اتفاق السلام، سارعت الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا "إيقاد" بدعوة طرفي الصراع إلى جولة تفاوضية جديدة، استضافتها أديس أبابا في فبراير/شباط، واستمرت بشكل متقطع خلال شهر مارس/آذار، حيث أصرت "إيقاد" على إشراك طرف ثالث مستقل في المفاوضات، هو مجموعة دينق آلور (المعتقلون السبعة الذين تم إطلاق سراحهم من جوبا بضمانة كينية) . كما اقترحت "إيقاد" تشكيل حكومة وحدة وطنية في جنوب السودان، للإشراف على المصالحة الوطنية، وتنفيذ ترتيبات المرحلة الانتقالية، مع نشر قوة إفريقية لمراقبة اتفاق وقف إطلاق النار، بمشاركة إثيوبيا وكينيا وبوروندي ورواندا وجيبوتي، وبدعم لوجيستي من الأممالمتحدة . لكن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، فجرى الإعلان عن تأجيلها إلى نهاية إبريل/نيسان الجاري، دون أن تسفر عن إحراز أي تقدم يعتد به . بل إن الموقف ازداد تعقيداً، على عكس ما كان يعتقده هيلاميريام ديسالجين، رئيس الوزراء الإثيوبي، الذي أعرب مراراً عن تفاؤله بسير المفاوضات بشكل سلس بين أبناء العائلة الواحدة . ويعود تعثر المفاوضات إلى رفض حكومة جنوب السودان مشاركة مجموعة السبع في المفاوضات، بدعوى أنها لم تشارك في المفاوضات منذ بدايتها، وكونها مطلوبة للمثول أمام القضاء لمحاكمتها بشأن كثير من الاتهامات السياسية والجنائية . فضلاً عن رفض سلفاكير تشكيل حكومة انتقالية يشارك فيها رياك مشار . إضافة إلى ذلك، فقد لقي اقتراح نشر قوة إفريقية لمراقبة اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب السودان قبول سلفاكير، الذي أعلن من قبل تشككه في حياد قوات الأممالمتحدة في جنوب السودان (يوناميس)، متهماً إياها بالتورط في تسليح المتمردين . في المقابل رفض مشار بشكل قاطع نشر القوة المقترحة، حتى بعد استبعاد القوات السودانية والأوغندية من المشاركة فيها . إذ يرى مشار انتفاء المبرر لنشر هذه القوة في ظل وجود بعثة الأممالمتحدة في البلاد، فضلاً عن تخوفه من انحياز القوة الإفريقية لصالح حكومة جنوب السودان . لذا أكد مشار أن قواته سوف تتصدى للقوة الإفريقية المزمع نشرها بحلول منتصف إبريل/نيسان الجاري، شأنها في ذلك شأن القوات الأوغندية المنتشرة في جنوب السودان، الأمر الذي ينذر بحدوث ما يعرف ب(زحف المهمات)، وذلك بتحول القوة الإفريقية إلى طرف جديد في الصراع، بدلاً من القيام بالدور المنوط بها في مراقبة تنفيذ اتفاق السلام . في هذا الإطار، عاد السقف المرتفع للمطالب إلى الظهور، واتجه الطرفان صوب التصعيد، بهدف إحراز المزيد من الانتصارات العسكرية، وكسب الأرض، وزيادة أوراق الضغط على خصمه قبل استئناف المفاوضات في نهاية إبريل الجاري . فأعلن مشار صراحة أن قواته تتأهب لاجتياح ولاية الوحدة والاستيلاء على آبار النفط الغنية فيها، لإجبار سلفاكير على الاستقالة . فيما سارع سلفاكير بمناشدة حلفائه لنجدته، حيث طالب حكومات أوغنداوكينيا وزيمبابوي بالتدخل العسكري لمواجهة قوات مشار، والحيلولة دون سقوط آبار النفط في أيدي المتمردين . كما زار السودان للمرة الثالثة منذ الانفصال، لتأمين الجبهة الشمالية، وربما استجداء الدعم من الخرطوم . وبينما يسعى كل طرف إلى تدعيم حصونه، وتعضيد تحالفاته، تتجه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة ابتداء نحو المزيد من التدهور، وذلك بوتيرة متسارعة، تنذر بكارثة إنسانية محققة . إذ تجاوز عدد القتلى عشرة آلاف مواطن، من المدنيين والعسكريين . وأصبحت المقابر الجماعية هي الأسلوب الأنسب لإيواء رفات أولئك الذين قضوا نحبهم . فيما أضحى انتشار الأوبئة والتعذيب البدني والنفسي والاغتصاب مشهداً مألوفاً في حياة المواطنين المنكوبين بأطماع الساسة . كما فاق عدد المواطنين الذين اضطروا إلى الهروب من موطنهم 900 ألف مواطن، من ضمنهم نحو 254 ألف لاجئ خارج حدود الوطن . حيث يعيش هؤلاء أوضاعاً إنسانية بالغة التردي، سواء في مستنقعات الجنوب الموحشة، أو مخيمات اللاجئين في إثيوبيا وأوغندا والسودان، التي عاشوا فيها قبل انفصال الجنوب، ليتجرعوا ثانية مرارة الحياة، دونما أمل في الحصول على الحد الأدنى من المتطلبات الإنسانية، في ظل عدم القدرة على إيصال الطعام والمساعدات الإنسانية لهم في خضم المواجهات العسكرية، وتعرض قوافل الإغاثة للنهب على أيدي العناصر المسلحة . هنا حذرت مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين، وبرنامج الغذاء العالمي من كارثة إنسانية وشيكة في جنوب السودان، ومن مجاعة هي الأسوأ منذ عقد الثمانينات من القرن المنصرم، خاصة إذا لم يتمكن المزارعون من غرس البذور خلال شهري إبريل/نيسان ومايو/أيار المقبل، وهو ما يعني أنهم لن يجنوا إلا قبض الريح عند حلول موسم الحصاد . ومن ثم وجهت المنظمتان نداءً للمانحين للحصول على تمويل يصل إلى 370 مليون دولار، لتمويل احتياجات اللاجئين من جنوب السودان، خاصة أن المعطيات تؤكد أن برنامج الغذاء العالمي سوف يواجه نقصاً في التمويل يبلغ 224 مليون دولار على مدى الأشهر الستة القادمة، للقيام بأنشطته في جنوب السودان . وعلى الجانب الاقتصادي، تبدو الأمور حالكة الظلام في ظل تدمير البنية الأساسية المتهالكة أساساً، وتوقف صادرات النفط، وتراجع إنتاجه من 245 ألف برميل يومياً إلى أقل من 160 ألف برميل في الوقت الراهن . الأمر الذي ينذر ليس فقط بوقف خطط التنمية وهروب الاستثمارات الأجنبية، وإنما يهدد أيضاً جميع مظاهر الحياة بالركود، وربما الشلل التام . في ظل هذه الفوضى العبثية لم يقدم أحد حلولاً ناجعة، إذ اكتفى سلفاكير بالتماس الدعم من حلفائه الإقليميين، بعد أن اطمأن إلى سلامة أسرته في مقرها الآمن في كينيا . فيما أعلن وزير خارجيته برنابا بنجامين عن أمله في إنجاز مصالحة وطنية شاملة تحفظ أرواح الجنوبيين، وتعيد الأمن والاستقرار الدائم للبلاد، داعياً مشار، إلى عدم وضع المتاريس والشروط التعجيزية أمام مفاوضات التسوية السلمية . كما اقترح وزير الإعلام مايكل مكواي نقل المفاوضات من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا إلى جوبا، لمناقشة القضايا الخلافية، وضمان مشاركة الأطراف الأخرى في الحوار . في المقابل، تفرغ مشار لإجراء المحادثات الإعلامية عبر الهاتف من مخبئه، غير مكترث بالدمار الذي لحق ببلاده . بينما وصف دينق ألور وزير مجلس الوزراء السابق وإحدى مجموعة السبع المفرج عنهم، ما يجرى في جنوب السودان بأنه انهيار دولة، مشككاً في قدرة الحكومة على إجراء مصالحات بين مجتمعات وقبائل جنوب السودان . فيما سعت الإدارة الأمريكية إلى حفظ ماء الوجه بعد رفض المقترح الأمريكي بتشكيل حكومية انتقالية، تترأسها شخصية مستقلة، وتأجيل الانتخابات إلى حين إجراء المصالحة الوطنية . حيث أعلنت واشنطن أنها لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي في مواجهة هذا الصراع الدامي . فأعلن البيت الأبيض عن عقوبات ينتظر توقيعها على كل المسؤولين عن تصعيد الصراع في الجنوب وعرقلة المصالحة الوطنية، على أن تشمل تلك العقوبات تجميد الأرصدة، وحظر الحصول على تأشيرات لدخول الأراضي الأمريكية . كما دعت واشنطن المجتمع الدولي إلى أن يحذو حذوها في هذا الشأن . وبعد، يبدو أن صرخات الاستغاثة التي أطلقها المنكوبون في جنوب السودان غير قادرة على الوصول إلى آذان الساسة، في ظل ارتفاع أصوات المدافع وصخب القتال، وعلوهما على صوت الحكمة، ووخز الضمير . فهل يكترث الساسة بالشعب الأعزل أم يستمر سقوط جنوب السودان في براثن العنف والمجاعة، وهو ما يشكل وصمة جديدة في جبين الإنسانية أن يموت من الجوع في القرن الحادي والعشرين بنو آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على العالمين . * نائب مدير مركز الدراسات السودانية - جامعة القاهرة المصدر/ الخليج 10/4/2014م