أنا أخالف، إذن أنا موجود . هذه هي المعادلة التي تتحكم في الواقع الليبي اليوم، فما من حادثة حصلت بعد الحرب الأهلية إلا وأثبتتها ومنحتها مبررات جديدة لتستفحل وتتفاقم . وآخر الحوادث ما حصل في البرلمان الأحد الماضي حين رفض النائب الأول لرئيس البرلمان عز الدين العوامي الإعلان عن "انتخاب" أحمد معيتيق رئيساً جديداً للحكومة، بعدما أكد النائب الثاني لرئيس البرلمان ذاته صالح المخزوم أن معيتيق انتخب رئيسا للحكومة وأدى اليمين الدستورية . هذه الواقعة ليست منفصلة عن غيرها، بل هي تتمة لما سبق، وتأكيد على أن عقلية المغالبة هي المسيطرة على أذهان من يسودون المشهد السياسي . وفضلاً عن أن نائبي رئيس البرلمان على طرفي نقيض فإن التناقض لا يتوقف عندهما فقط، بل ينسحب إلى مستويات أخرى، وأهمها موقف حكومة تصريف الأعمال برئاسة عبدالله الثني تسليم مهام السلطة إلى معيتيق، الذي يريده تيار الإسلام السياسي من إخوان ومن شابههم رئيساً للحكومة رغم أنف الجميع . لا ينقص ليبيا في هذه الحالة إلا أن تكون لديها حكومتان داخل البرلمان تضافان إلى مئات "الحكومات" الأخرى التي تديرها ميلشيات بإمكان بعضها أن تسحب رئيس البرلمان أو رئيس الحكومة من غرفة نومه للتحقيق معه وفرك أذنه . لكن الأمر الأخطر مرده إلى أن الحكومات السابقة في طرابلس قد انتخبت بتوافق نسبي داخل البرلمان، بينما الوضع الحالي مختلف جداً، ولأنه كذلك فهو يقدم ذريعة قوية ليقع الجميع في حيص بيص وصراع مسلح نضجت كل عوامله الميدانية والسياسية . فالإسلاميون المعززون بميليشيات مصراتة التي ينتمي إليها معيتيق يريدون الاستحواذ على الحكم عنوة من خصومهم الليبراليين والقوميين والقبليين ويعملون بكل ما أوتوا من قوة لدعم تنظيم الإخوان العالمي وخاصة في مصر التي تستعد لانتخابات رئاسية وتشريعية بعد ذلك . وبالمقابل هناك قوى ليبية عدة ترفض أن تكون بلادهم مطية للإسلام السياسي وفضاء ل"دولة" فئوية لا مشروع لها غير العيش في صراعات لا نهاية لها . الخلاف بين الطرفين يزداد حدة من مرحلة إلى أخرى، وقدمت حادثة الاقتحام المسلح الأخيرة للبرلمان أثناء التصويت لانتخاب رئيس جديد للوزراء وفرار النواب تحت لعلعة الرصاص برهاناً ساطعاً لمن بقلبه شك في أن الأمور تسير هناك وفق منطق خاص لا علاقة له بنواميس العصر ولا بأبسط التطلعات التي راودت كثيرًا من الليبيين حين جرفهم تيار "الثورات" ذات يوم طمعاً في دخول "جنة النعيم" . لقد حولت الأحداث المتوالية، من اغتيالات منظمة واقتحامات مسلحة مفاجئة للمقرات السيادية وظهور علني لجيوش من الإرهابيين، الواقع الليبي إلى جحيم فسيح، وكلما توصلت قلة من الخيرين لإزاحة عقبة ظهرت عقبات أخرى أشد وأقسى، وكأن ما حصل من "ثورة" وحلم بالتغيير كان بمثابة فخ اختلطت فيه النوايا للإيقاع بالبلد وتصفية مقدراته لينتهي به الأمر إلى هذا الخراب الذي يعيشه اليوم . المصدر: الخليج الاماراتية 6/5/2014م