فضلاً عن التدهور الأمني غير المسبوق الذي تعيشه ليبيا، نتيجة عدم تفعيل وغياب الأجهزة الأمنية الرسمية، تعيش البلاد على وقع أزمات عديدة في ظل عدم "وجود الدولة"، وعدم قدرة المؤسسات الحالية على إدارة شؤون البلاد بأسلوب رشيد، يمكن أن ينهي المرحلة الانتقالية المتعثرة حالياً، بسبب الخلافات والانقسامات الحادة بين مختلف الأطراف والمكونات السياسية والاجتماعية . يظل "غياب الدولة" في ليبيا مشكلة كبرى، يمكن أن تحول البلاد إلى صومال جديد، بل إلى مركز للتوتر والقلق على البحر المتوسط، حيث جنوب أوروبا ودول الجوار الإفريقي اللتين تعيشان حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، فضلاً عن دول الجوار العربية التي ترى في الساحة الليبية مصدراً لمشكلات متعددة على حدودها . وفي ظل هكذا غياب للدولة في ليبيا، تتصاعد حدة الأزمة هناك إلى الدرجة التي يبدو معها أن ليبيا تقف على مسافة خطوات معدودة من اندلاع حرب شبه مؤكدة، سواء في جانبها السياسي، أو في جانبها العسكري والعملياتي . . ومن ثم، يتفاقم الوضع على الساحة الليبية، من التردي الأمني والتدهور العسكري، وصولاً إلى الاحتقان السياسي الحاد، فضلاً عن التناحر القبلي والجهوي، وظهور الاتجاهات الانفصالية، وهي كلها مؤشرات على خطورة الأوضاع وتعدد جوانب الأزمة . ولعل هذا التعدد في جوانب الأزمة الليبية، يتبدى بوضوح إذا لاحظنا أن ليبيا تعيش اليوم بين حكومتين، وجيشين، وعشرات المليشيات المسلحة، هذا فضلاً عن برلمان مثير للجدل . . وهي أبعاد تساهم جميعها في التردي الحاصل في هذا البلد منذ ثلاث سنوات، بعد أحداث 17 فبراير/شباط ،2011 وسقوط القذافي ونظام حكمه . فإلى جانب البرلمان، يبقى المؤتمر الوطني العام أحد أبعاد الأزمة الليبية . . إذ، بالرغم من كونه أعلى سلطة سياسية وسيادية في ليبيا، في الوقت الراهن، باعتباره مؤسسة منتخبة شعبياً، إلا أنه لم يستطع أن يمتلك القدرة اللازمة على ضبط الوضع العام وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، نظراً للاستضعاف الهيكلي الذي هي عليه، نتيجة نقص الخبرات والإمكانات والتوازنات الهشة بين مختلف القوى والكتل السياسية داخله . وما يزيد من ضعف البرلمان، وتراجع دوره السياسي والتشريعي، أن الاختلافات داخله بشأن الأمور السياسية، غالباً ما تؤدي إلى التهديد بالعنف، وهو ما يفقد القرارات التي تصدرها الفعالية المطلوبة، مثلما هو حاصل الآن بشأن القرارات المتعلقة بإخلاء المدن من التشكيلات المسلحة، خاصة في طرابلس وبنغازي . . متناسياً، بشكل لافت، أن الذين صوتوا على هذه القرارات يملكون ظهيراً مسلحاً، يلجأون إليه كلما اقتضت الضرورة ذلك . أما إلى جانب المليشيات المسلحة، التي أصبح عددها بالعشرات، وربما بالمئات، في عموم البلاد، يبدو بجلاء أن هذه المليشيات تمثل أكثر أبعاد الأزمة الليبية خطورة وتأثيراً في التردي السياسي والتدهور الأمني اللذين تعيشهما البلاد . وفيما يبدو، فإن وضع المليشيات المسلحة في ليبيا حالياً، يتشابه كثيراً مع نظام الكتائب العسكرية الذي اعتمده القذافي، خلال العقدين الأخيرين من حكمه . وإذا كان البعض يرى أن القذافي قد ارتكب خطأ فادحاً، بتهميش الجيش الوطني لمصلحة الكتائب المسلحة، فإن الخطأ الذي لا بد من الاعتراف به هو: عدم قدرة الحكام الجدد، منذ عام ،2011 على إصلاح ما أفسده "العقيد" ونظامه، حيث تركت المليشيات المسلحة، التي هزمت نظام القذافي، لتنمو وتتضخم على حساب جيش وطني موحد . والأغرب، أن يتم ذلك في ظل وجود وزارة للدفاع، لا تريد لهذه المليشيات أن تقوى، أو أن تحل محلها في فرض الهيمنة على البلاد . . وهو الأمر الذي بدأ يثير القلق لدى دول الجوار الجغرافي للدولة الليبية، سواء في البحر المتوسط (جنوب أوروبا)، أو الدول العربية والإفريقية التي تجاور ليبيا من الشرق والغرب والجنوب . وليت الأمر توقف عند حدود الدولة الليبية، لكن فوضى السلاح قد تجاوزت الحدود الليبية، لتصل إلى ما هو أبعد من الدول المجاورة، حيث أكد تقرير صادر عن الأممالمتحدة (نشر في 11 مارس/آذار الماضي)، أن: "ليبيا أضحت مصدراً رئيسياً للأسلحة غير المشروعة"، وأشار إلى أنه يجرى تهريب الصواريخ المضادة للطائرات، التي تحمل على الكتف، من ليبيا إلى: تشاد، ومالي، وتونس، ولبنان، وربما إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، كما أن هناك يضيف التقرير محاولات قد جرت لتهريبها وإرسالها إلى جماعات المعارضة السورية . في هذا الإطار، لنا أن نتصور مدى ما تمثله هذه المليشيات من تهديد حقيقي، ليس لبنية الدولة الليبية، سياسياً واجتماعياً وعسكرياً، ولكن، وهذا هو الأهم، مدى ما تمثله من عامل خطورة على المستقبل السياسي العام للبلاد . وإذا كان البرلمان والمليشيات المسلحة يمثلان بعدين ضمن الأبعاد المتعددة للأزمة الليبية، فإن هناك أبعاداً أخرى ساهمت في ظاهرتين تشهدهما الساحة الليبية حالياً . الظاهرة الأولى، كان الخلاف الذي نشب بين رئيس الحكومة الجديدة أحمد معيتيق ونظيره رئيس حكومة تسيير الأعمال، عبد الله الثني، وهو الخلاف الذي أسهم في دخول البلاد في أكبر أزمة سياسية ودستورية . . وذلك بعد تولي الأول مقاليد السلطة بدعم قوات "درع الوسطى"، ورفض الأخير إتمام إجراءات تسليم السلطة إلا بعد أن صدر الحكم النهائي من المحكمة الدستورية الذي أيد الطعن الذي تقدم به عدد من أعضاء البرلمان بعدم دستورية انتخاب معيتيق، وإعلان المؤتمر الوطني أنه يحترم قرار المحكمة الدستورية . المثير، بهذا الخصوص، أن حكومة معيتيق قد باشرت أعمالها، في حين تتمسك حكومة الثني بمباشرة أعمالها أيضاً، وذلك في إطار حاد من الانقسام في البرلمان، وعلى وقع ما تشهده البلاد من عملية تسجيل الناخبين استعداداً لانتخاب أعضاء المؤتمر الوطني العام، التي من المزمع إجراؤها في 25 يونيو/حزيران الجاري . والواقع، فإن الخلاف بين الحكومتين إذا أردنا الدقة يتجاوز المسائل القانونية والشكلية، إلى مسائل أكثر عمقاً، خاصة فيما يتعلق بالموقف من "عملية الكرامة"، والتحرك العسكري الأخير لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وهجومها على مواقع لتنظيمات متطرفة في شرقي البلاد . وكما أشرنا في مقال سابق، فإن معيتيق كان مدعوماً من جماعة الإخوان المسلمين، وحلفائها، وهو قد وصل إلى رئاسة الحكومة بدعم من كتلة "العدالة والبناء" الإخوانية، وكذا جماعة "الوفاء للشهداء" (الجماعة الليبية المقاتلة)، وبالتالي سيكون في معسكر المعارضين لحفتر وقواته وعمليته العسكرية، الموجهة بالأساس ضد المليشيات المسلحة الداعمة للإخوان . هنا، تبدو الظاهرة الأخرى التي تعيش ليبيا في أجوائها حالياً، تلك المتعلقة بالعملية العسكرية التي يقودها اللواء حفتر، والمعروفة ب"عملية الكرامة"، وهي العملية التي تنذر بنشوب حرب أهلية شبه مؤكدة، بين المليشيات التابعة لما يسمى ب"أنصار الشريعة"، وقوات حفتر، خاصة بعدما أصبحت هذه الأخيرة، قوات حفتر، في وضع الهجوم، كنتيجة لتفوقها الجوي، إضافة إلى الدعم الشعبي والقبلي من الليبيين في الشرق والغرب والجنوب، هذا فضلاً عن انضمام نسبة كبيرة، من القوات الرسمية الليبية، إلى قوات حفتر . في هذا السياق، لنا أن نتصور مدى ما يمثله الوضع المتردي على الساحة الليبية من تهديد حقيقي، ليس لبنية الدولة الليبية، سياسياً واجتماعياً وعسكرياً، لكن، وهذا هو الأهم، مدى ما يمثله ذلك من عامل خطورة على الوضع العام بالنسبة للدول المجاورة لليبيا، خاصة إذا لاحظنا: الحدود الليبية الطويلة نسبياً مع هذه الدول، من ناحية، ومن ناحية أخرى، التمدد القبلي عبر الحدود بين ليبيا وجيرانها: مصر في الشرق، وتونس والجزائر في الغرب، وتشاد والنيجر ومالي في الجنوب . ومن ثم، يبدو أن الساحة الليبية تقف أمام أحد احتمالين: فهي إما أن تجد مخرجاً لحل الأزمة الليبية متعددة الأبعاد، وإما أن تغرق في الاختلافات السياسية والعسكرية، وهو احتمال يؤدي بالطبع إلى الكابوس الصومالي . المصدر: الخليج 12/6/2014م