ظاهرة غريبة في تاريخ العمل السياسي في السودان تكررت أكثر من مرة في تاريخه الحديث خاصة بعد الاستقلال، ويمكن أن نطلق عليها "الحرد السياسي" ومن يصيبه هذا المرض/ الظاهرة يتجه تحت تأثير الغضب والحنق إلى اتخاذ موقف غريب بالمعايير العقلية، وربما مضر بمن اتخذه وعواقبه ليست في الصالح على كل حال، وربما يضر بالمسيرة السياسية للمجموعة السياسية أو يضر بالبلاد عموماً، وقد تنعكس آثاره السياسية على رجل السياسة نفسه في حالة المواقف الفردية، وهذه الظاهرة مستغربة ومتكررة في آن معاً. تتعدد الأمثلة وتتكرر الحالات بما لا يمكن استقصاءه في هذه الساحة وعلى سبيل المثال فإن عبد الله خليل عندما استدعى صديقه القائد العام الفريق عبود وطلب منه استلام السلطة، كان يتصرف وهو في حالة حرد سياسي منبعه القلق من التقارب بين الاتحاديين ومصر في عهد عبد الناصر وما يمكن أن يقود ذلك إلى أحوال سياسية لا يرتضيها عبد الله خليل الاستقلالي، وهكذا ظهر إلى الوجود أول انقلاب عسكري في السودان بعد عامين فقط من الاستقلال تحت تأثير ظاهرة الحرد السياسي وبابكر عوض الله أول رئيس وزراء بعد انقلاب مايو والعضو المدني الوحيد في مجلس قيادة الثورة استقال من منصبه الرفيع وهو في حالة حرد سياسي بعد أن انتقد نميري تصريحاته في ألمانيا الشرقية حول التوجه الشيوعي لانقلاب مايو، وقيل أن عبد الناصر لامه على موقفه ذلك لأنه فقد منصباً سياسياً رفيعاً يمكن أن يؤثر عبره أكثر من تأثير استقالته. ذلك على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي، فإن الحزب الشيوعي السوداني قد أقدم على تنفيذ انقلاب مايو بسبب طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان، فدفعتهم حالة الحرد هذه إلى الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكري كان الشيوعيون الذين نفذوه من أول ضحاياه وفقدوا قياداتهم المدنية والعسكرية بعد عامين فقط من الإنقلاب. بل إن الجبهة الإسلامية أقدمت أيضاً على تنفيذ انقلاب يونيو 1989م وهي في حالة حرد سياسي بعد إخراجها من السلطة بعد اجتماع القصر الذي كان في حقيقته انقلاباً مدنياً على حكومة منتخبة من البرلمان. وفي إطار ظاهرة الحرد السياسي يأتي اتفاق باريس الذي وقعه الصادق المهدي مع متمردي الجبهة الثورية أوائل هذا الشهر أغسطس 2014م فبالإضافة إلى تأثير المشاكل الداخلية التي يعاني منها حزب الأمة، فالصادق المهدي كان مدفوعاً بغضب وحنق على النظام الذي اعتقله، فاندفع تحت تأثير ذلك إلى الانقلاب على قناعاته بضرورة "الجهاد المدني" ومقولات الحل من داخل السودان ليتفق مع مجموعات مسلحة تسعى للاستيلاء على السلطة بالقوة. أسوأ ما في حالات الحرد السياسي أنها تؤثر سلبياً على المستقبل السياسي لمرتكبها لأنها ببساطة تم الإقدام عليها تحت التأثير النفسي لا عبر النظر الموضوعي. نقلاً عن صحيفة الصحافة 20/8/2014م