بينما كان التفكير يداهمني طيلة الأسبوعين الماضيين حول ما تعكف إسرائيل على تدبيره في شهر رمضان الفضيل للفلسطينيين كعادتها السنوية التي لا تفتأ تُحييها بجرائمها المتنامية في فلسطين عموماً وفي قطاع غزة على وجه الخصوص؛ شاهدت في أول ليالي رمضان حدثا غريبا لم يثر اندهاشي بقدر ما أثار فضولي والحدث هو "احتفال جيش الدفاع الإسرائيلي بحلول شهر رمضان الكريم؛ جاء ذلك على لسان المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي" افيخاي أدرعي "الذي فاجأ رواد موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بنشر صورة للمجندين اليهود مرسوم في أعلاها الهلال وبجواره "رمضان كريم"؛ تلك الصورة التي نُشرت بعد ساعات قليلة من نشر أفيخاي لهذه التهنئة "جيش الدفاع الإسرائيلي .. بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك نتوجه إلى المسلمين عموماً بأحرّ التهاني والتبريكات، متمنياً للجميع أياماً مباركة في شهر الرحمة والبركة والتواصل، نسأل الله أن يجعل صيامكم مباركاً ومقبولاً، وذنباً مغفوراً وإفطاراً هنيئاً .. عساكم من عوّاده". لم يكتفِ المتحدث باسم جيش الاحتلال بهذا القدر بل سارع بعد ساعات بنشر فيديو مصوّر يُظهره جالساً على رأس مائدة لكتيبة جنود "مسلمة" من الجيش الإسرائيلي أثناء إفطارها بالزيّ العسكري الكامل؛ ولنا في هذا الفيديو عدة وقفات؛ أولاً: اعتمد الفيديو بشكل رئيسي على تهنئة أفراد الكتيبة العسكرية الإسرائيلية لجموع المسلمين بحلول شهر رمضان مستخدمين اللغة العربية بإجادة على اختلاف لهجاتها المتعددة؛ وكأنهم يريدون إيصال رسالة مفادها أنهم ليسوا من اليهود العرب الذين هاجروا للدولة العبرية قبل عقود بل هم نموذج لشباب عربي مسلم آثر الانضمام مؤخراً إلى الجيش الإسرائيلي وهو على غير دين اليهود الذين لم يُرحّبوا بالمسلمين بين صفوف جيشهم فحسب بل أعانوهم على إقامة شعائرهم الدينية، ثانياً: أظهرت الخلفية في الفيديو استخدام نمط من الموسيقى يشبه تلك الألحان التي ميّزت العهد العثماني والتي عادة ما تلين لها قلوب المسلمين نظراً لما تمثله لهم من أمان استمدوه قديماً من دولة الخلافة! لا أدري الدافع وراء استخدام هذا النمط من الألحان؛ فمن المؤكد أن إسرائيل لا تسعى لتأسيس دولة خلافة إسلامية ولكن يبقى هذا لغزاً غريباً إلى جانب اللغز الأغرب في الفيديو الذي يتبلور في شخص المجند الثالث السمين الذي هنأ الأمة برمضان؛ فكيف لمجند في الجيش الإسرائيلي أن يكون سميناً مترهّل الجسد خصوصاً وأن افيخاي وضح أن هؤلاء الجنود من كتيبة الدوريات الصحراوية أي أنهم من أفراد المشاة وليسوا مجندين في أعمال مكتبية أو إدارية؛ ثالثاً: كان بإمكان أدرعي أن يكتفي بتلك التهاني التي غزت الفيديو لكنه لم يكتفِ بذلك وأخذ يدعو للمسلمين بأن يكون الشهر الكريم شهر رحمة ومغفرة وعتق من النار، ثم استطرد قائلاً: إن رمضان يحل هذا العام والعالم العربي غارق في وحول الإرهاب والتطرف حيث تعبث المنظمات الإرهابية بحياة المواطنين مستخدمة اسم الإسلام وآياته؛ ثم قال بالحرف الواحد "نتضرع إلى العلي أن يجعل هذا الشهر خيراً وأمناً لسكان المنطقة والضفة والقطاع وأن يقيهم شر تلك المنظمات الإرهابية التكفيرية المتطرفة "قبل أن ينهي حديثه للجنود قائلاً "رمضان كريم .. كل عام وأنتم بخير .. إفطاراً شهياً وذنباً مغفوراً وصوماً مقبولاً والسلام عليكم ورحمة الله"! مجدداً أذكركم أن أفيخاي أدرعي هو المتحدث الرسمي لجيش الاحتلال الإسرائيلي وهو من برر ولا يزال قتل الأطفال والنساء والشيوخ والرجال من أبناء فلسطين، فهو سفاح ينحدر من أصول سورية ويتحدث العربية بطلاقة وإجادة؛ لكنه على ما يبدو يُطبق الآن سيناريو ما زلنا نجهله؛ فبعد أن انتهى هذا الأدرعي من إفطاره سارع في صبيحة اليوم التالي إلى إصدار عدد من الأخبار والترويج لها ومنها على سبيل المثال لا الحصر "لأول مرة: وصول المصلين من قطاع غزة إلى الحرم القدسي الشريف عبر حافلات من مراكز المدن مباشرةً إلى أورشليم القدس وكل عام وأنتم بخير"؛ حتى أنه صدق تلك التمثيلية التي يلعب فيها دور البطولة وخرج مندداً ومنتقداً لأداء السلطة الفلسطينية التي لا توفر سُبل الراحة للمصلين فكتب قائلاً "بسبب نقص تحضيرات السلطة الفلسطينية يجري الآن تفتيش النساء لكن لو عبرن بالحافلات لم يكن هناك داع للتفتيش"؛ وهذا يذكرنا بالمثل "إن لم تستحِ فقل ما شئت"! ولكن ما جدوى تلك التصرفات يا تُرى؟!؛ هذا هو السؤال الذي ينبغي علينا أن نُفسره ونناقشه؛ فالجيش الصهيوني يعي أن مثل تلك الألاعيب لن تثني العرب عن حلمهم الأبدي الذي يتبلور في القضاء على الدولة الصهيونية؛ ولو كان الأمر غير ذلك كان على اليهود السماح للمعتقلين والأسرى بالصوم والإفطار أو حتى العزوف عن تعذيبهم والتنكيل بهم في رمضان؛ لكن هذا الكيان الاستعماري يرمي إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فاستعمال افيخاي أدرعي لجملة "جيش الدفاع الإسرائيلي" مرات عديدة هي رسالة للعالم ولملايين الأطفال العرب خاصة من غير الفلسطينيين من رواد مواقع التواصل الاجتماعي بأن الجيش الإسرائيلي هو جيش دفاع وليس كما يُوصف دائماً بجيش الاحتلال؛ وهذا يعني أن إسرائيل تُمهد لاستخدام جيشها لغرض غير تقليدي ظاهره الدفاع والحماية؛ فمثلاً لو قامت إسرائيل بقتال داعش مع من سيقف من العرب خاصة بعد نجاح الإعلام العربي في توجيه الكراهية تجاه داعش والشيعة من دون اليهود! ولعل الحقيقة المريرة التي صرنا بصدد التعرض لها هي جاهزية العديد من الفئات العربية والإسلامية للتطبيع الشامل مع اليهود خاصة بعد المتغيرات الفواجع التي اجترأت على المنطقة العربية وأسفرت عن الواقع الضبابي الذي نجم عنه عدد من المفاهيم التي يُروّج لها اتفقنا معها أم لم نتفق؛ أولاً: داعش جماعة معادية للإسلام تمثل خطراً يضاهي خطر اليهود؛ ثانياً: جماعة حماس هي غير شرعية داعمة لجماعة الإخوان الإرهابية وتمثل خطراً على الأمن القومي المصري يتعدى خطر اليهود الذين يقومون اليوم بالتنسيق الأمني مع مصر؛ ثالثاً: حزب الله والجماعات الشيعية العراقية وإيران يتربصون للعرب كما لم تتربص لهم إسرائيل، وهكذا أصبحت إسرائيل حمامة السلام في المنطقة و ما يُروّج له افيخاي هو أمر سيكون له ما بعده! المصدر: الراية القطرية 23/6/2015م