بعد مضي ستة عقود من احتفال السودان باستقلاله يبدو أنه لا يزال يتعين على السودانيين أن يبحثوا عن الاستقلال الحقيقي لبلادهم التي لا تزال طبقتها السياسية، في الحكم والمعارضة، على تعاقب الحقب ليست عاجزة عن إقامة نظام سياسي متراض عليه يوفر الحد الأدنى من مطلوبات السلام والاستقرار والتنمية واحترام كرامة الإنسان فحسب، بل لا تزال في حالة إدمان ل "الوصاية الأجنبية" تلتمس عندها الحلول لأزمة وطنية مستحكمة لم يصنعها الخارج بل صنعت على أيدي نخبة سياسية عاجزة تعاني من داء شح النفس وقلة المرؤة الوطنية. لم يكن قرار مجلس السلم والأمن الإفريقي الذي أصدره الأسبوع المنصرم بتجديد ولاية الآلية الإفريقية رفيعة المستوى بقيادة الرئيس ثابو إمبيكي على الشأن السوداني، على الرغم من عجزها من تحقيق اختراقات ذات بال على مدار سبع سنوات منذ تكليفها لأول مرة في يوليو 2008 بملف دارفور وأخذت تتمدد بتفويضات واسعة لتشمل المنطقتين والعلاقة مع دولة جنوب السودان وأخيرا مسألة الحوار الوطني، لم يكن هذا القرار إلا حلقة أخرى في سلسلة طويلة من التدخلات الخارجية، الإقليمية والدولية، في صميم الشؤون الداخلية السودانية، حيث تحولت من حاجة طارئة وملّحة أحياناً إلى دور مستدام متحكّم في نسيج القرار السوداني ليس سياسياً فحسب، بل كذلك بتدخل عسكري غير مسبوق جعل الحديث عن سيادة الدولة السودانية شيئاً من الماضي. وللسودان في عصره الحديث تاريخ حافل بالتداخلات الأجنبية أسهمت بلا شك في تشكيل خارطته السياسية والجغرافية وأسهمت حتى في تخليق العديد من قواه السياسية وفي تحديد أجندة الصراع حتى بدا في كثير من الأحيان أن التنافس بينها مرتهن بأجندة الخارج بأكثر من كونه متماهياً مع الأجندة الوطنية، ولم تبق تلك حالة في سياق تاريخي بل ظلت حاضرة بقوة في قواعد التدافع السياسي السوداني إلى يومنا هذا، ليس بفعل قوة الضغط الخارجي الساعي لتحقيق مصالحه، بل بسبب ضعف المناعة الوطنية وعجز الإرادة السياسية التي تستدعي التدخل الأجنبي استدعاءً، وما من مسبة تقدح في الطبقة السياسية السودانية، إلا من رحم ربي وما أقلهم، أكثر من ارتهانها أزمة البلاد الوطنية لأيادٍ خارجية تبتغي عندها الحكمة وفصل الخطاب. وإلا فما هي تلك الحلول السحرية التي يملكها الوسطاء الأجانب ويعجز الفرقاء السودانيون عن الإتيان بمثلها حتى ينتظروا لتُفرض عليهم من الخارج. قد يعتقد البعض أن هذا الحديث عن الوصاية الأجنبية التي أناخت على الأزمة السودانية حديث نظري في ظل عالم تغير فيه مصطلح ومعنى السيادة الوطنية وتغيرت فيه قواعد العلاقات الدولية، هذا صحيح ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أن العامل الأكثر تأثيراً في مجريات الأمور هو ما تفرضه إرادة الفاعلين السياسيين على المستوى الوطني، بمعنى أنه لا منجاة من التدخلات الخارجية بدوافع مختلفة في ظل المعادلات الكونية الراهنة، ولكن صدها أو تخفيف غلوائها يأتي من الرهان على الاعتبارات الوطنية والخضوع لمنطقها واستحقاقاتها، وليس بالاستسلام لحتمية الدور الخارجي، واعتباره صاحب الحل والعقد والضامن الوحيد للتسوية الوطنية. ولعل الخضوع الطويل للطبقة السياسية السودانية للتدخلات الأجنبية في الشأن الوطني وحالة التطبع الكامل عليها، حتى بدت لا تثير حفيظة أحد ولا استغرابه، هو من صميم ما يجب أن يطرح لنقاش عميق في الفضاء العام حول ضرورة معالجة هذا الخلل الخطير في تركيبة العقل السياسي السوداني. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن التشخيص الدقيق لمتلازمة "الاستقواء بالخارج" ، هذا المرض الدفين في السياسة السودانية، التي نعاني منه اليوم ليست حكراً على طرف دون آخر، فقد درج حكم "الإنقاذ" على رمي معارضيه بهذه التهمة الشنيعة: الاستعانة بالأجنبي، وهو في الواقع ليس منها براء. فما عرف السودانيون عهداً رُفعت فيه شعارات "استقلال القرار السياسي" و "السيادة الوطنية" مثلما رفعتها سلطة "الإنقاذ" ، ومع ذلك ما علم الناس عهداً انتهكت فيه سيادة البلاد مثلما يحدث اليوم، وما من انتهاك أكثر من خضوعها لنشر عشرات الآلاف من القوات العسكرية الأجنبية، تحت أية مظلة كانت، لحماية مواطنين من حكومتهم واتهامها بالعجز عن توفير الحماية لهم. دعك من دخول حكم الإنقاذ في إبرام اتفاقيات شراكة في السلطة بضمانات دولية، حدثت كل هذه التدخلات بقبول السلطة، على الرغم من الشعارات المرفوعة، لأن ذلك كان يكفل لها إطالة عمرها في الحكم بصفقات تحت رعاية الخارج، فكيف تكون الاستعانة بالأجنبي أكثر خطراً من هذا الخضوع لانتهاك القرار الوطني.