وهل من شيء يفري الكبد أكثر من أن تحتل دولة جنوب السودان الوليدة والتي تطحنها الحروب الأهلية والمجاعات أراضي سودانية وترفع عليها علمها؟! ألا يكفي أن أراضينا تحتل من تلقاء الشمال والشرق؟! لقد صرخ به والي النيل الأبيض عبد الحميد موسي كاشا الذي تئن ولايته من عبء السيل الجارف من هجرة اللاجئين الجنوبيين، وشكا وبكي من تأثير تلك الهجرة المستمرة على الخدمات الشحيحة أصلاً في الصحة وغيرها. الجديد هذه المرة مما تكرر مرات ومرات أنه رغم طوفان الهجرة الجنوبية نحو الشمال وولاية النيل الأبيض تحديداً فإن الرعاة السودانيين الذين ينزحون إلى المناطق الحدودية في الجنوب بحثاً عن المرعي تساء معاملتهم وينكل بهم ويقتلون أحياناً ويطردون، فقد نشرت بعض الصحف خبر نزوح (650) أسرة شمالية من الجنوب مؤخراً واستقرارها بمنطقة جودة بمحلية الجبلين بالنيل الأبيض حيث خاطبها الوالي كاشا الذي عبر بغضب عن تلك المفارقة العجيبة التي تجعله يستقبل كل حين أفواجاً من اللاجئين الجنوبيين في الوقت الذي تطرد فيه دولة الجنوب الرعاة الشماليين وأسرهم بل وتحتل الأراضي الشمالية وترفع علمها عليها! قال كاشا معبراً عن استيائه البالغ خلال لقائه بمواطنيه المبعدين من دولة الجنوب ومخاطباً حكومة جنوب السودان (ارجعوا حدودكم فقد نفد صبرنا ولن نتنازل عن شبر من أرضنا). ما حدث في النيل الأبيض من احتلال لأرض سودانية وطرد للرعاة الشماليين في وقت يستقبل فيه السودان ملايين اللاجئين الفارين من جحيم الحرب في تلك الدولة الوليدة يشير إلى العلاقة العرجاء بين الدولتين بل يشي بأن أمر العلاقة مع الجنوب يحتاج إلى ما ظللنا نتحدث عنه من قديم وأعني وضع إستراتيجية للتعامل مع الجنوب الذي هو قدر جغرافي أبدي لا فكاك منه سواء قبل الانفصال أو بعده سيما وأن السودان يسدد الآن فاتورة لمعالجات الخاطئة التي تمت بعد إبرام اتفاقية نيفاشا وقبل وبعد إنفاذ الانفصال جراء عدم وجود تلك الإستراتيجية. قارنوا بين انفصال إريتريا عن أثيوبيا وكيف تمكنت تلك الدولة الجارة من حسم نزاعها مع اريتريا وإنهاء الحرب بالقوة الرادعة رغم عدم انتهاء الخلاف حول الحدود وكيف تفرغت إلى هموم بناء الدولة من خلال تدشين مشروع نهضوي حقق لها استقراراً ومعدلات تنمية غير مسبوقة؟! ما من نزاع بين شعبين أفضي إلى انفصال يشبه النزاع السوداني الجنوبي، فقد كان قرنق وأولاده من بعده لا يطمحون إلى انفصال سلس بين دولتين إنما إلى فرض مشروع وحدوي يحتل فيه الجزء الصغير (الجنوب) الوطن الأم (الشمال) ويعيد تشكيله على أسس عرقية على غرار ما حدث في جنوب إفريقيا التي ظل قرنق يتخذها مثلاً حشد به خطابه السياسي وسمي به حركته (الحركة الشعبية لتحرير السودان) وحتى بعد أن انفصل الجنوب قال تلميذه الوفي باقان أموم لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية (إن مشروع السودان الجديد) سيتم سواء من خلال الوحدة (الخطة أ) أو من خلال الانفصال (الخطة ب). أحتاج الى لملمة مقدمة المقال مع مؤخرته حتى يستقيم الأمر ولكن في هذه العجالة اريد أن أقول إن إستراتيجية قرنق كانت تحتاج الى إستراتيجية مضادة تحفظ للسودان استقراره وهويته في مواجهة المشروع المضاد في الجنوب. من هم أصحاب (الخطة ب)؟ إنهم رفاق قطاع الشمال وحلفاؤهم في الشمال الذين يصرون على اجترار ذات الأدبيات القديمة لقرنق وباقان في كل خطاباتهم وبياناتهم السياسية، ويكفي إصرارهم على استخدام ذات الاسم لذات الحركة التي لا تزال تحكم جنوب السودان الحركة الشعبية لتحرير السودان) وعدم استحيائهم أو حرجهم من اعتبار أنفسهم قطعة (قطاع) من تلك الدولة التي تعاني من سكرات الموت! هؤلاء هم من ظلوا ولا يزالون يعملون على أن تستمر حالة عدم الاستقرار في علاقة الدولتين وبالتالي بقاء القضية والمشروع حياً إلى أن يتحقق الحلم. نقلاً عن صحيفة الصيحة 2016/1/18م