ليس للانفصال منطلق موضوعي. فالدعوة للانفصال تأتي في سياق عاطفي انفعالي، ينطلق إما من مشاعر عنصرية، أو دينية، أو حديث يتسم بالشك في نوايا الشمالين، أو الكراهية غير المبررة.. وعند بعض النهخب القيادية، يمثل مصالحها الطبقية، وطوحاتها الذاتية في السلطة والثروة. وتحليلها للواقع لا يستند للتفسيرات التاريخية الموثقة، إنما يفترض فقط سوء النية لدى الشماليين. وهذا المنحنى العاطفي الذاتي لا يبرر دعوى الانفصال التي يجب أن تستند الى معايير موضوعية، تأخذ في المقام الأول مصلحة الجنوب وشعبه في الانتماء لدولة قوية، قادرة اقتصادياً، ومستقرة اجتماعياً، وقوية أمنياً وسياسياً. إن كانت الوحدة القومية تقوم على الأثنية الواحدة واللغة الواحدة والدين الواحد.. وهذا لا ينطبق على الدولة السودانية، ومن ثم أصبح مبرراً للحركة الانفصالة، فإن هذا لا ينطبق على الجنوب، حيث تتمايز الأعراق (وليست القبائل وحدها) وتتعدد اللغات بالعشرات، وحيث يسود الشك كذلك، وعدم الثقة، علاقات المجموعات البشرية، وتكثر الاتهامات بالاستعلاء والاسترقاق، بنفس القدر الذي ترمي به العلاقات الشمالية الجنوبية. لكننا نتحدث عن وحدة وطنية تقوم على مبدأ الوحدة في التعددية وفكرة الموازييك الثقافي.. فقدرنا أن نعيش معاً في دولة خطت الأقدار حدودها الحالية. وحتم الواقع نظامها الاقتصادي، ومصالحها المادية، وأمنها الوطني. ولقد كانت ولا تزال تقدم نموذجاً ثراً، هو ثمرة غالية للتثاقف والتعايش والتزاوج بين مكوناتها.. يرفد جيلاً بعد جيل حقيقة القومية السودانية الواحدة.. التي تتشكل بشكل طبيعي وتلقائي، وبصورة تدريجية متراضية، وغير محسوسة، وليس كما يقال بالقهر والتسلط.. هذا هو السودان الجديد يتشكل، وليس سودان الصراع والنزاع بين مكوناته الذي يأتي نتيجة للقضاء على بعضها، وتحكم بعضها، كما يروج أنصار هذا التوجه في الحركة الشعبية. علينا أن نوسع اطار التفكير في مسألة الوحدة والانفصال، بحيث تشمل الشمال والجنوب والمحيط الاقليمي. من الذي خسر في حال الانفصال؟ هل هو بالضرورة الشمال؟ أم الجنوب والشمال معاً؟ هل استمع الجنوبيون الى التقارير التي تتحدث عن ضمور احتياطات النفط واحتمالات نضوبها المبكر؟ هل درسوا عدم الجدوى الاقتصادية، لمد خط أنابيب النفط في اعالي النيل الى الموانئ الكينية؟ أو خط السكة الحديدية كذلك؟ هل فكروا في سلبيات أن تكون الدولة مغلقة بلا شواطئ أو موانئ على البحر؟ هل فكروا في المخاطر الأمنية على دولة صغيرة، تحيط بها دول طامعة في الهيمنة عليها؟ ما هو اثر الانفصال على الاقليم؟ وهو الذي تتكون دوله من اثنيات وجهويات وأديان متعددة.. ويسود علاقاتها التوتر الدائم؟ ما هو أثر دويلة صغيرة مستقرة اقتصادياً وأمنياً على الجوار الذي تتداخل قبائله مع جنوب السودان؟ ما هو أثر دولة ضعيفة، يطمع الأجانب في جعلها قاعدة لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية في الجوار على دولة، ومقدراتها وسيادتها الوطنية؟ هل فكر الجنوبيون، وخاصة دعاة الانفصال في الموارد التي يحتاجونها لتنمية الجنوب؟ هل سينتظرون المساعدات من اسرائيل وأمريكا وبريطانيا وفرنسا والفاتيكان؟ الم تكن تجربة المانحين مع اتفاقية نيفاشا كافية لتدلل على مصداقية هذه الدولة التي لا يهمها الا تمزيق السودان؟؟ اذا كانت قلة من النخب الجنوبية، الطامعة في قيادة الجنوب، والتمتع بالسلطة والثروة الناضبة وصداقة الخواجات، ترى في الانفصال مصلحة ذاتية – والتجربة حتى الآن تؤيد ذلك – فعلى الجنوبيين عامة، والقيادات المخلصة أن تفكر في مصير الجنوب، ومصير الأجيال القادمة.. وتتبصر الخسائر والمخاطر التي يقود اليه الانفصال.. وان تنظر للوحدة ليس من قبيل ما تصوره الدعايات السياسية والمشاعر العنصرية، وانما نظرة موضوعية من قبيل مصلحة الجنوب. فالوحدة تعني جنوباً سودانياً في وطن كبير، قادر على النهوض وقادر على الدفاع عن استقلال شعبه وعلى الدفاع عن مصالحه.. وطن تتكامل موارده ليصبح قوياً، يوفر الخدمات والتنمية والرفاهية لشعبه وأقاليمه.. وطن يجد مكاناً في الخارطة السياسية الاقليمية والدولية.. أربعون مليوناً في مليون ميل مربع، إنه وطن المنعة والقوة والسؤدد، الوطن الذي يجدر بكل جنوبي أن ينتمي اليه ويفتخر به.. نقلاً عن صحيفة آخر لحظة السودانية 10/6/2010م