مسيرة الصحفي، في العالم الثالث، تذخر بالمتاعب والمآزق، فالمهنة محفوفة بالمخاطر، مهما كان الحذر. وإذا كانت السياسة، فن الممكن، فالصحافة، في الأنظمة الاستثنائية، فن المستحيل، قلما ينجو الصحفي من الملاحقات القضائية ومواجهة أحكام تقوده أحيانا إلى السجن، أو الغرامة المالية التي تصاحبها ثبوت الإدانة، مما يدمغه في سجل أصحاب السوابق، والكارثة الكبرى إذا كان الحكم مصحوبا بعقوبة الجلد المهينة لكرامته، وقد طاردتنا مثل هذه الأحكام، في السودان، بعد صدور قوانين سبتمبر 1983.. ونتحدث هنا عن قضايا توافرت فيها للمتهمين كل وسائل الدفاع والتحقيق بشفافية بعيدا عن الأقبية السرية وانتزاع الاعترافات قسرا أو تزويرها عمدا..! شاء حظي أن أواجه تهما تصل أحكامها إلى تطبيق العقوبات الثلاث، السجن، الغرامة والجلد، أثناء عملي ناشرا ورئيسا لتحرير صحيفة "النهار" السودانية ومديرا لمكتب جريدة الاتحاد الظبيانية ما بين أعوام 1986 — 1989.. ومما يثير الحنق والدهشة المريرة، لم أكن طرفا مباشرا في هذه القضايا، وإنما بحكم المسؤولية كرئيس تحرير وممثلا لأصحاب الامتياز في حالة جريدة الاتحاد.. القضية الأولى كان أطرافها النائب العام، الأستاذ عمر عبد العاطي في حكومة الانتفاضة 1986 والوزير الدكتور عثمان أبوالقاسم، وزير الدولة للتعاون في نظام الرئيس جعفر نميري والصحفي يوسف الخاطر، رئيس قسم الأخبار في رئاسة جريدة الاتحاد.. والقضية الثانية، من قضايا العصر لأبعادها الدولية والإقليمية، كان ضحيتها آية الله مهدي الحكيم وصاحب الدعوى، اللواء إبراهيم أحمد عبد الكريم، مدير الشرطة،الذي اتهمنا بالقذف وإشانة سمعته، لتصريحات نشرناها للأستاذ محمد الحسن الأمين، القيادي بالجبهة الإسلامية القومية عام 1988م.. تزامنت انتفاضة أبريل 1986 مع إدارتي لمكتب جريدة الاتحاد الظبيانية، بالخرطوم، وتميزنا بتغطيات وانفرادات جعلت الاتحاد مصدرا مرموقا لأخبار السودان، وفي مرحلة صعبة لمراسلي الصحف، بعد انقطاع خدمات الهاتف والبرقيات عبر مصلحة البريد السوداني التي كان موظفوها في طليعة منفذي الإضراب السياسي الذي كان السلاح الرئيسى لانتصار الانتفاضة. وكان من حسن حظي التدريب على الإرسال عبر أجهزة التلكس عندما كنت مراسلا لوكالة أنباء تاس السوفيتية.. ونتيجة للانفرادات التي حققناها وإعلاء سمعة جريدة الاتحاد، أصدر الأستاذ عبد الله النويس وكيل وزارة الإعلام بأبوظبي، ورئيس تحرير، جريدة الاتحاد، قرارا بمدنا بجهاز فاكس، وهو الأول في السودان باستثناء السفارات الأجنبية، وجاء معه المهندس أحمد غنام لتركيبه وتدريب زميلنا الأستاذ معاوية الشريف مدثر على إدارته، وجاء أيضا بصحبة الجهاز الأستاذ يوسف الخاطر، رئيس قسم المحليات.!. كان تزويدنا بالفاكس من الأحداث الكبرى فهو معجزة العصر، فعندما أطلق سراح الزعيم نيلسون مانديلا، بعد ربع قرن في السجون، سئل عن أهم شيء لفت انتباهه بعد إطلاق ساحته، قال الفاكس..! وأمضى المهندس غنام أسبوعا لتدريبنا على هذه المعجزة!.. وكنا عندما تتعطل خدمات الهاتف، بسبب الأمطار، نأخذ جهازنا إلى دار الهاتف وسط الخرطوم، ليتم الإرسال مباشرة من الرئاسة!! وأعددنا للأستاذ يوسف الخاطر برنامجا مكثفا لمقابلة رموز الانتفاضة، بإشراف الزميلة الأستاذة سعاد عبد الله حامد.. وأكمل مهمته وعاد إلى أبوظبي لتفاجئنا جريدة الاتحاد بتحقيق مثير وبعناوين يتطاير الشرر من قسوتها، احتلت صفحة بأكملها. "النائب العام عمر عبد العاطي يقول.. عثمان أبوالقاسم... لص.."!! ولجأ الدكتور عثمان إلى القضاء واستدعتني النيابة للتحقيق بصفتي مديرا لمكتب الاتحاد وبالتالي أنوب عن الناشر..! وأصبحت المتهم الأول وفتح بلاغ ضد الأستاذ يوسف الخاطر كمتهم ثان! وبدأت المحاكمة، تولى الأستاذ الكبير محمود حاج الشيخ يعاونه الأستاذ عصام أبوقصيصة للدفاع عني وزميلي الأستاذ يوسف الخاطر، بينما مثل الاتهام الأستاذ عبد الحليم الطاهر المشهور ببراعته وقدراته الفائقة في استدراج الشهود والإيقاع بهم، وقد اشتهر في قضية قتل مثيرة عام 1963 باسم قتيلة الشنطة، وقد ركز في فى خطبة الادعاء على الأضرار المادية والنفسية التي لحقت بالدكتور عثمان أبوالقاسم، نتيجة للتحقيق الذي نشرته جريدة الاتحاد على لسان الأستاذ عمر عبد العاطي النائب العام، وقال إن منظمة الزراعة والأغذية الدولية التي كانت متعاقدة مع الدكتور عثمان، أوقفت تعاملها معه بعدما نشرته صحيفة توزع في معظم عواصم العالم. وركز الأستاذ عبد الحليم مطالبا بإدانتنا بجريمة القذف وإشانة السمعة تمهيدا للحق المدني وقد حدده لاحقا بتعويض موكله بمليونى دولار.! وحاول الأستاذان محمود حاج الشيخ وعصام أبوقصيصة، إخراجي من القضية لدوري المحدود في استضافة الأستاذ يوسف الخاطر وتوفير الاتصالات له، ولم تنجح المحاولة باعتبار تمثيلي لأصحاب امتياز الصحيفة. وبعد مداولات امتدت لأكثر من ستة أشهر، صدر الحكم بمعاقبتنا بالغرامة خمسين ألف جنيه أو السجن ستة أشهر مع الجلد، واستأنفنا الحكم وليتنا لم نفعل!... انتقلت القضية إلى محكمة الاستئناف التي راجعت حكم المحكمة الابتدائية ودحضت الحكم بأنه لا يحق لها إسقاط عقوبة الجلد التي يجب أن تطبق مع أي من الحكمين السجن أو الغرامة وأسقط في يدنا وكانت بحق أياما عصيبة! واستمرت المساجلات شهورا عديدة وتغيرت أوضاع السودان، بانقلاب الإنقاذ عام 1989، وفى يوليو من نفس العام، سافر الأستاذ عبد الحليم إلى القاهرة في رحلة استشفاء وحل مكانه مولانا عثمان الطيب، رئيس القضاء الأسبق ومن أقرباء الدكتور عثمان أبوالقاسم، كان الرجل نبيلا شهما فعندما عرف بموقفي، بأني لم أكن طرفا مباشرا في القضية، تعاطف معي، وأبلغنا بوضوح أن الحل في يد الدكتور عثمان أبوالقاسم، فيحق له التنازل عن دعواه بالنسبة لنا معا لا لواحد منا، ووجه سؤاله للدكتور عثمان هل تعفيهما معا من المحاكمة؟ وبالطبع رفض لأن هدفه كان الحق المدني بعد إدانتنا! واستمرت أزمتنا، وشاء الله أن يكون المخرج من حيث لا نحتسب..! هاجم مواطن سوداني سفارة دولة الإمارات في الخرطوم، وكان مقيما في إحدى مدنها، ولم يتمكن من تجديد إقامة زوجته وأطفاله الثلاثة، لعجزه دفع الغرامة التي يفرضها القانون بعد تجاوزه فترة التجديد بعدة سنوات، وبالتالي فشل في تسفيرهم معه، وهدد بالاعتداء على السفير إذا لم تنضم إليه أسرته.. واستاءت دولة الإمارات من الحادث، وقدمت احتجاجا رسميا وأشارت أيضا إلى مأزق مواطنها الأستاذ يوسف الخاطر الذي يواجه عقوبات من ضمنها الجلد!.. واستطاعت الشرطة السودانية إلقاء القبض على المهاجم، وتم ترحيل أسرته. ويبدو أن تسوية ما، أبرمت مع الدكتور عثمان أبوالقاسم، فتنازل بعدها عن القضية... وتنفسنا الصعداء! ومرة أخرى، سوء الحظ، أقحمني مرتين في قضية اغتيال المعارض العراقي آية الله مهدي الحكيم، كان قد وصل إلى الخرطوم بدعوة من الجبهة الإسلامية القومية في اليوم السابع من يناير 1988 للمشاركة في مؤتمرها العام، وأقام في فندق هيلتون. وفى يوم اغتياله كان في زيارته الأستاذ محمد يوسف محمد والنور أزرق ورتبا معه زيارة إلى الدكتور حسن الترابي والسيد الصادق المهدي للمصالحة بينهما وبالفعل اجتمع بكليهما، وعاد إلى الفندق مع مرافقه، وعند استلامهما مفاتيح غرفتيهما، أمطرا بوابل من الرصاص، وقتل الحكيم في الحال وأصيب المرافق في ساقه.. ولم تنم الخرطوم تلك الليلة، وقررنا في مجلس تحرير النهار إصدار ملاحق لتغطية الحدث أولا بأول، وانطلق الزملاء في كل الاتجاهات. وبعد ساعة جاء الزميل زين العابدين محمد أحمد، رئيس قسم الأخبار، لاهثا ليبلغنا أنه توصل إلى معرفة القاتل وصاغ خبره مستهلا له "شوهد قاتل السيد مهدي الحكيم في مطار الخرطوم وسارع إلى طائرة عسكرية عراقية كانت في انتظاره، وصلت قبل ساعة من تنفيذ الجريمة، وقد أقلته عائدا إلى بغداد.."! ولم تعجبني الصياغة، وكنا جميعا في غاية الإرهاق، وقلت له كيف ننشر خبرا بمثل هذه الخطورة، باستهلال، شوهد، من الذي شاهده!؟ لابد من تصريح واضح من مسؤول في المطار أو الحكومة، وتعالت أصواتنا محتدة، ويبدو أنني تفوهت بكلمات غير لائقة في حق زميلنا العزيز ومزقت الخبر، فغادر غاضبا وتوجه إلى الشرطة في الخرطوم بحري وفتح بلاغا ضدي لإهانته وسط زملائه! وبالفعل استدعتني الشرطة وحقق معي، إلا أن الأخ الكريم، عاد وسحب البلاغ.. والمفاجأة أن روايته كانت صحيحة مائة في المائة كما تبين لاحقا، (تفاصيل الحادث منشورة على موقع جوجل كما رواها الزميل زين العابدين )!، وواجهت في اليوم التالي مأزقا جديدا عندما أبلغني الأستاذ محمد الحسن الأمين، القيادي بالجبهة الإسلامية القومية، أنهم سلموا خطابا للواء إبراهيم أحمد عبد الكريم، مدير عام الشرطة، قبل وصول الحكيم، محذرين من مخطط عراقي لاغتياله، أثناء زيارته الخرطوم، وطالبوا باتخاذ ترتيبات استثنائية لحمايته، ونشرت الخبر في المانشيت باللون الأحمر!.. وأثار ضجة كبرى وأصدرت وزارة الداخلية بيانا نفت فيه تلقيها أية تحذيرات أو حتى شكوك عن الحادث، ورفعت دعوى ضدى، ورغم فداحة ما نشرناه، كنا متمسكين بصدقية مصدرنا، ومع أن خصمنا كان، مدير الشرطة، إلا أن كل إجراءات التحقيق تمت في أجواء من الاحترام والتقدير لمهنة الصحافة.. وتحرك الأصدقاء من كل التيارات بمن فيهم الأستاذ سيد أحمد الحسين، وزير الداخلية، لتسوية القضية، وعدم تصعيدها لحساسيتها وأهميتها لأمننا القومي، واتفقنا على نشر توضيح يتضمن اعتذارا متوازنا، للواء إبراهيم أحمد عبد الكريم، وأوقفنا مواصلة النشر في القضية، إلا عبر البيانات الرسمية، مراعاة للمصلحة العامة، وتعانقت مع الرجل الفنان الإنسان، أمطر الله عليه شآبيب رحمته.. المصدر: الشرق القطرية 14/6/2010