جرتنى علاقتى بالسودان إلى مجالات عديدة لم تكن فى دائرة تخصصى أو اهتمامى، ومن بينها كرة القدم، فأصبحت وأنا من لا أعرف من هذه الرياضة حتى أبجدياتها، أحرص الناس على متابعة مبارياتها وأخبارها إذا ما تعلق ذلك بمصر والسودان، وصارت لى معارف وصداقات واسعة فى أوساط الرياضيين السودانيين يصعب علىَّ حصرها، بل حتى بمدربى كرة القدم ومسؤولى الأندية والصحافيين والنقاد الرياضيين وحتى بمشجعى الفرق الرياضية. وفى المباريات بين الفرق المصرية والسودانية كنت أعلن لأصدقائى فى مصر وأفراد عائلتى أننى سأشجع الفريق السودانى، وكنت أتقمص وأنا من لا شأن لى بعالم الكرة شخصية المشجعة المتعصبة لفريقها، وكان ذلك مدعاة لمداعبة أصدقائى وإخوانى، كما كان يجلب لى غضب جميع أطفال عائلتى، الذين يثورون فى وجهى حانقين على موقفى، لاسيما حينما هزم الهلال الأهلى بالقاهرة قبل سنوات، وحينما هزم الفريق القومى السودانى الفريق المصرى 4/0 فى المباراة الودية بالخرطوم بعد فوز الأخير بالبطولة الأفريقية. فى المرة الأولى حينما هزم الهلال الأهلى كانت مفاوضات السلام لازالت تتعثر فى ضاحية نيفاشا الكينية وتدخل أحرج مواقفها ومشكلة دارفور تشتعل، مما كان يسبب ألما وإحباطا شديدين للشعب السودانى الذى يتوق إلى السلام والاسترخاء بعد سنوات طوال من العناء والمعاناة.. فلما فاز الهلال سعدت للغاية أن يدخل فوزه شيئا قليلا من البهجة على قلوب تيبست من تكاثر الهموم والأحزان، وكان أيضا من أسباب سعادتى أنى وجدت أن الكرة قد وحدت الشعب السودانى المنقسم وقتها فى المفاوضات وخارجها، وكان أصدقائى السودانيون يتصلون بى وقتها من كل مكان فى السودان وخارجه ليواسوننى وهم فى غاية النشوة على هزيمة الأهلى، لكن هذا التوحد السودانى الذى خلقه انتصار الهلال وقتها كان يسعدنى، ولو كان هذا على حساب فريق مصرى، ورجوت يومها بعضا من قيادات الهلال الذين دعوناهم للأهرام بعد النصر ومعهم الكابتن مصطفى يونس، أن يقسموا السودان إلى هلال ومريخ، حتى لا يقسم إلى شمال وجنوب وشرق وغرب، وأن يفعلوا دور الرياضة لتوحيد الشعب السودانى. أما فى المباراة الثانية الودية التى أقيمت فى السودان لتكريم الفريق القومى المصرى عقب فوزه بالبطولة الأفريقية، فقد تفضل يومها الأخ العزيز الدكتور رياك قاى مستشار الرئيس السودانى بدعوتى لحضور المباراة، وكان رئيسا للجنة العليا لتكريم الفريق المصرى، وكذلك فعل الأخ العزيز الأستاذ مجدى شمس الدين سكرتير اتحاد الكرة، وعندها توجهت إلى السودان برفقة الفريق المصرى، الذى قوبل نجومه بالتصفيق والترحاب والمحبة من قبل الجمهور السودانى فى الطائرة التى أقلتنا إلى الخرطوم، وعندما هبطنا إلى مطار الخرطوم كان الاستقبال حافلا ومبهجا، وكذلك كان الحال فى كل مكان ذهبنا إليه.. شعرت وقتها بأن الرياضة والرياضيين يمكن أن يكونوا بالفعل أداة للوصل بين الشعوب، أقوى واكثر فاعلية مما سواها. وكان استاد المريخ بأم درمان الذى أقيمت به المباراة يومها، وتقام فيه مباراة الجزائر ومصر اليوم، هو أول وآخر استاد أدخله وأجلس فيه فى حياتى، وكان الذهاب لمشاهدة المباراة فى الاستاد بالنسبة لى يومها أمرا فى غاية الإثارة والتشويق.. كان يوما لا ينسى، حدثت به العديد من الطرائف والمفارقات الناجمة عن جهلى بقواعد كرة القدم، وكنت يومها قد قررت أن أشجع الفريق المصرى لأنه يلعب خارج مصر، كما أفعل مع الفرق السودانية حينما تلعب بمصر. كنت أجلس ساعة المباراة إلى جوار الأخت والصديقة العزيزة الصحفية المتميزة صباح موسى وهى شديدة الحماس والتعصب للفريق المصرى، ومعنا الأخ والصديق رمضان أحمد السيد رئيس تحرير صحيفة «قوون» الرياضية ومصريون وسودانيون آخرون.. كنت أجلس بينهم تقريبا كالبلهاء، ألاحق صباح بأسئلتى عما يدور فى الملعب، وهى تكاد تجن من سخونة المباراة من ناحية وأسئلتى السخيفة من ناحية أخرى التى كانت تدور تقريبا حول بديهيات لا يُسأل عنها، ثم كانت الطامة الكبرى التى فضحت جهلى على الملأ، حينما بدل الفريقان مكانيهما فى الشوط الثانى، وعند دخول أول هدف وقفت مصفقة، بينما كان المصريون يلطمون، والسودانيون ينبهوننى وعيونهم تدمع من شدة الضحك أن الهدف الذى احتفى به هو فى شبكة الفريق المصرى التى تغيرت فى الشوط الثانى.. وأنا لا أدرى..!! بعدها قررت أن أكف عن التشجيع واكتفى بالمشاهدة، إلا أن ذلك لم يعفنى من لوم أصدقائى وإخوتى فى مصر وتحميلهم إياى المسؤولية عن هذه الخسارة غير المسبوقة على حد قولهم للفريق المصرى بعد تشريفى الميمون للمباراة..!! واليوم قدر السودان أن يستقبل هذه المباراة الساخنة بين مصر والجزائر المحاطة بالتعقيدات، ولن أكون كسائر المصريين الذين يتوقعون بل ويطالبون أن ينحاز السودانيون إليهم فى هذه المباراة، والذين حينما اختاروا الخرطوم كمكان للمباراة كانوا يعلمون جيدا أى أرض يختارون وإلى أى شعب هم ذاهبون، أما أنا فالقصة عندى أكبر من ذلك، فعندما وقع الاختيار على السودان ابتداءً قبل أحداث مباراة القاهرة سعدت بهذا الاختيار، وتمنيت أن يكون السودان هو النجم الحقيقى لهذه المباراة، التى تمنيت أن تسلط عليه الضوء، ضوء آخر مختلف عن الأضواء التى يتم تسليطها على مشكلاته وقضاياه، قلت لنفسى: ستكون هذه فرصة لسودانى الحبيب لكى ينفض عن نفسه بعض ما لحق باقتصاده وصورته من ضرر خلال العام الأخير بسبب مشكلات المحكمة الجنائية الدولية وانخفاض أسعار البترول وآثار الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعيات المشكلات الداخلية، ولكننى سرعان ما توجست خيفة بسبب المشكلات الناجمة عن الشحن الإعلامى غير المسبوق بين الفريقين المصرى والجزائرى، التى تجعل من مباراة اليوم امتحانا عسيرا للسودان وأهله.. وهذا هو قدر السودان، فبدلا من أن يأتى إليه إخوته لمواساته وتطييب جراحه، عليه هو اليوم أن يتعالى على جراحه جميعا، وأن يضمد هو جراحهم، كما كان دوما فى كل المحطات الرئيسية لأمته العربية وقارته الأفريقية، واليوم يومك يا سودان. لا أطلب من السودانيين اليوم أن ينحازوا للفريق المصرى أو الجزائرى، فهذا شأنهم، وهذه خيارات فردية، والأمر فى النهاية امر مباراة رياضية، وستظل هكذا، مهما حاول البعض أن يجعل منها موقعة حربية أو قضية كرامة وطنية. لكن من اريده أن ينتصر اليوم هو السودان وشعبه العظيم وقيمه الأصيلة، وقدر السودانيين الذى جعلهم وسطا فى أمتهم العربية وقارتهم الأفريقية. ولو كنت فى الخرطوم اليوم لرفعت علم السودان ليرفرف عاليا مع علمى مصر والجزائر.. ولنرفع جميعا أكف الدعاء إلى الله أن يحفظ سوداننا الحبيب سالما آمنا معافى، ليظل موئلا لإخوانه وأشقائه على الدوام، وأن يؤلف قلوب شعوبنا فى مصر والسودان والجزائر وسائر شعوب المنطقة، ويخرجنا من هذه المباراة سالمين. نقلاً عن صحيفة الصحافة 18/11/2009م