من المعروف أن الحدود السياسية لأقطار العالم الثالث وزعها الحلفاء على أنفسهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كغنائم ولم يكن للسكان أي دور أو خيار ليكونوا هنا أو هناك.. ومن سوء حظ القبائل السودانية التي تعيش على الأطراف أن تعمد المستعمر أن يشقها كما هو الحال في قبائل جنوب وشرقه وغربه وباتت تلك القبائل تعيش حياة بائسة وصعب عليها الاندماج والانصهار لما ورثته من أسباب. كما أن المستعمر الإنجليزي عزل الجنوب بالقوة عن الشمال وفرض على أبنائه أن يظلوا حفاة عراة يفنيهم الجهل والمرض والاقتتال الدائم بين القبائل كما غدا يعمد أبناءهم في ماء الكنسية ويطبعهم بطبائع المستعمر حتى يكونوا امتداداً لهم إذا ما خرجوا مكرهين. ومن المعروف أنه قد زرع في دواخلهم الغل الشديد وأجج بينهم وبين إخوتهم في الشمال نار الفتنة التي اشتعلت قبل أن يولي الإنجليز الأدبار.كان الدخول لجنوب السودان بموجب تصريح يوقع عليه الخواجة بعد أن يطمئن أن الداخل إليه لن يفسد عليه برنامجه، كما حرم المستعمر على الجنوبي لبس العراقي والسروال زي عموم أهل السودان وأما اللغة العربية فالكلام بها جريمة. السودان الآن ليس فقط في حاجة إلى تمتين الوحدة الوطنية والحفاظ على الجنوب إنما هو محتاج أشد ما تكون الحاجة للتماسك والتمازج مع تشاد وإثيوبيا وإريتريا وقد شكلت من قبل ما يعرف بالسودان الذي يقع غربي بحر القلزم. والفتنة التي وقعت في الجنوب وفي دارفور وفي الشرق من أيقظها هو الذي أيقظ التي كانت بين الدول المذكورة – والسودان كدولة ذات اقتصاد نام وموارد ذاخرة وقد وضع رجله على طريق النهضة يجب عليه أن يستصحب الدول المذكورة وأن تمنعت أو ضللت ذلك لأن الشعوب واحدة والسحنة واحدة والأهداف مشتركة ثم أنه لن يهدأ للسودان جفن إذا كانت الدول المذكورة مضطربة أو بها مجاعة أو غير ذلك فالسودان تستوعب أرضه كل هؤلاء وأولئك ويستطيع الاستفادة من طاقات من يأتي من هؤلاء من مشاريع تعود عليه وعلى الوطن بالخير الوفير كما يستطيع أن يهذب الطبائع النافرة والثقافات التي لا تناسبنا حتى يعيش الجميع هنا في وئام وسلام. طيب إذا كانت هذه نظرتنا وما نؤمن به فكيف نفكر مجرد التفكير أن ينفصل الجنوب أو نجعلهم يفكرن في ذلك وهذه وتلك أوهام شيطانية ووسواس قهري تستوجب علاج من أصيب بها. من العيب علينا أن تشعر قبيلة سودانية لأية أسباب اجتماعية بالدونية وهذا لا يرجع فقط للمجتمع وإنما أيضاً يرجع لظروف القبيلة التي كانت مختلفة ويعيش أفرادها الجهل والمرض والشعوذة والدجل ثم يجد الأوغاد ضالتهم فيمن يتعلم ومن تلك القبائل ويشحنهم بالضلال والكفر بالمجتمع والسياسة ومن يسوسها والحكم والحاكم.. هكذا كان حال المستعمر وسيبقى يلبس في كل مناسبة زيها ويظهر في كل عهد بالوجه الذي يناسبه. هنالك بعض المتنطعين من الذين يظهرون في وسائط الإعلام وهم يستهجنون نظرية المؤامرة فيما حاق بنا ولحق بالأقطار المشابهة وينسبون تخلفنا ومشاكلنا لعجزنا والحق إنها ليست فقط نظرية مؤامرة وإنما هو استعمار مستعمر يغير وسائله وينسى الناس أنهم مخدرون وعاجزون عن الخروج مما هم فيه رغم إنهم قادرون على ذلك. ولا نريد أن نخرج عن محور جوهر قضيتنا المثارة في ثنايا هذه السطور ونقول أن السودان لا يحتمل الانفصال وإذا حدث ذلك بقهر القهار فلن يمسى بما بات عليه. القضية لا يجب أن ننظر إليها من زاوية ضيقة وأن الاستفتاء المرتقب هو تقرير مصير الجنوب، كلا فأنه ضمنياً هو تقرير لمصير الشمال وبالتالي لمصير السودان الأوسع.. والاستفتاء واقع اقتضته الظروف ولم يكن أبداً لفصل الجنوب عن الشمال أو العكس وإنما كانت رؤية الراحل جون قرنق أن الحرب الطويلة المفروضة بظروفها لم يكن بين مسبباتها الإحساس بالرغبة في الانفصال ولو كان ذلك كذلك لفعلوا ما فعلته جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها ولو كان الراحل ينوي بقبول الاستفتاء فصل الجنوب لشجع الجنوبيين على النزوح إلى كينيا ويوغندا وغيرها من دول الجوار المشابهة إذ كان الراحل يعلم أن الجنوبيين سيتأثرون بالشمال وثقافة الشمال وسيتكلمون باللغة العربية بدلاً من عربي جوبا ولكن الراحل كان وحدوياً حتى النخاع بل راودت الأحلام بعض مستشاريه أن يحكم السودان كله والآن يشارك سلفاً بقوة في حكم كل السودان. كان الراحل قرنق ذا نظرة بعيدة وعندما قال أنه سيشرب الجبنه في المتمة هاج الجعليون واستنكروا ذلك ويستطيع الآن أحفاد الملك نمر أن يدعوا سلفاكير ليحقق أمنية قرنق ويتغدى في شندي ويتعشى في المحمية وهو معزز مكرم ويصر الجعليون أن يزورهم بلا حرس مدججين أو غير مدججين. إن المزايدة بنبرة الانفصال من بعض ضعاف النفوس أنما هي مزايدة مستهجنة وسخيفة وابتزازية تمنى أبناء الجنوب بالانزواء في مساحة ضيقة بلا منافذ مائية والبلد التي هي بلا منافذ مائية تقع تحت رحمة الدول المحيطة بها في اقتصادها وفي سياستها وسيادتها والجنوب ليس له بنية تحتية تؤهله ليكون دولة ذات سيادة.. ثم أن المهم كيف يرضي سوداني بالمواطنة يستطيع أن يزرع في حلفاالجديدة والقديمة ورهيد البردي يحرم نفسه م حق منحه الله له وملك بموجبه مليون ميل مرب على الشيوع ويختار طائعاً أن يتقوقع في مساحة ضيقة تتحكم فيها ظروف الطبيعة وسلطان القبيلة.. أن الزراعة هذه نافلة أهل السودان ولكن المواطن السوداني يستطيع أن يفعل ما يشاء داخل المليون ميل في حماية القانون والدستور وحماية حكومة قوية من أسباب بقائها توفير الأمن والسلام. نرى بأعيننا آلاف الأجانب من دول الجوار حازوا على الجنسية السودانية ومئات الآلاف يلجأون يومياً إلى رحاب الوطن الكريم فهل يفكر سوداني بالميلاد أن يتقوقع في مساحة ضيقة ومعزولة رافضاً هذه المنحة الإلهية التي يعمل الأجانب على استحقاها بشتى الوسائل ينجحون أحياناً وأحياناً كثيرة يفشلون.. إن مثل هؤلاء ينطبق عليهم المثل "السمكة إن شبعت تنط برا البحر" والمواطن لم يشبع بعد. إن الاستفتاء حق دستوري لا حيلة للناس إلا الانحناء له ولكن تمزيق الوطن جريمة يشترك فيها من يقود إليها ويظل ذنبه معلقاً في عنقه إلى يوم القيامة.. إن من يفكر مجرد التفكير في الانفصال إنما يفكر في حرمان الأجيال اللاحقة من الاستمتاع في ظل هذا الوطن الكبير الذي من أسباب قوته هذا التنوع الثقافي والعرقي وهذه المساحة الشاسعة، أن التنوع العرقي المتكامل والمنصهر قوة لا يدركها المنعزلون المتقوقعون فانظروا إلى القبائل غير المختلطة الدماء تجدها حتى الآن تحمل السلاح وتحتمي بالقبيلة وزعيم القبيلة وقادتها وهي على مر السنين والأيام تشعر بالخوف وعدم الاطمئنان تستوي في ذلك قبائل كل السودان الصافية أعراقها. وقد ثبت علمياً وتحقق واقعياً أن القبيلة المعزولة لا يتحقق لها الحكم على الإطلاق مهما كانت قوتها وأن قيادتها الذين يحملون بذلك أفئدتهم هواء.. انظروا إلى الوراء قليلاً فمملكة سنار أسسها عمارة دنقس وعبدالله جماع ومملكة الفور كانت نتيجة لامتزاج دماء سليمان صولون بالزرقة والمهدية لم تأتِ ثمارها لولا فكر الإمام المهدي الثاقب الذي كان زراعة الأيمن الخليفة عبدالله التعايشي وفي الشرق الأمير عثمان دقنة وعلى العموم نظرة واحدة إلى أم درمان توضح لنا كم كان الإمام موفقاً.. وفي إرثنا الإسلامي أن سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام أول ما دخل المدينةالمنورة آخى بين المهاجرين والأنصار حتى فكر بعض الأنصار في التنازل عن بعض أزواجهم لإخوانهم المهاجرين، وقد قال حبيبنا "اغتربوا ولا تضوا" يعني تزوجوا الغريبات تقوى أنسابكم. الأحلام التي تراود الرزيقات أو الزغاوة أو الدينكا أو المسيرية أو غيرها من القبائل هي أضغاث أحلام لقوة وهمية لن يسودوا بها أبداً ولن يصبغوا حضارة ما داموا يقدسون العزلة ويحتمون بالقبلية. ولقد حققت في كتاب "الهجرة إلى الذات" أن أبناء جبال النوبة كانوا شركاء لنوبة الشمال ونزحوا لظروف معروفة وأن الحضارة التي خلفوها كانت نتيجة لتمازجهم وأهل الشمال.. وبعد أن انعزل نوبة الجبال تخلفوا قسراً. الآن نجد المنسوبين إلى دنقلا لا ينتسبون إلى قبيلة وإنما لبلد ليس لها عراقة تنتسب من ناحية تاريخية بحتة.. وأما الشايقية فالانتساب لها انتساب للهجة ولموقع الجغرافي ليس إلا وقد جلبوا لأنفسهم الغيرة والحسد للحرفنة.. هل تعلموا أن الشيخ علي عثمان بديري الأصل شايقي الانتساب وأن أهلنا وأصهارنا ناس النور حامد حلاويين ولكنهم شوايقة بالانتساب يلتفتون يمنة ويسرة إذا أرادوا أن يقولوا أنهم حلاويون جاء دور المثقفين من أهل القبائل المعزولة ليخرجوا أهلهم من هذه الورطة التاريخية. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 4/8/2010م