في رواية ((المهلة الأخيرة)) يطرح الكاتب الروسي فالنتين راسبوتين نموذج المحبب العجوز التي تقول في الرواية:) أنا)) امرأة عجوز تحتضر، ومرضها هو الشيخوخة، تقيس الزمن بعمر الأولاد وعددهم، يعذبها الانتظار وليس الاحتضار أو الموت، انتظار الأبناء الذين حضروا جميعا ما عدا تانيا او تانشورا،)) ويطرح أيضاً نموذج العجوز ((ميرونيخا)) التي ملت الانتظار، ولم يعد في حياتها سوى بقرتها، لأن الأولاد في سن معينة لا يسألون عن الأمهات والآباء. في خضم الاحتضار والذكريات وتفاعل الطبائع البشرية تتكشف أحط وأسمى ملامح الروح الإنسانية)) وهنا يجمع راسبوتين بين التحليل النفسي وبين السخرية المأساوية. تذكرت هذه الرواية وأنا اكتب عن زيارة رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الفدرالية الروسي والمبعوث الخاص إلى السودان ميخائيل مارغيلوف والتي ستبدأ اليوم في وقت تعمقت فيه الفجوة بين شريكي الحكم في السودان، بل ووصلا لطريق مسدود في علاقاتها بسبب الخلافات العالقة كما أن قوى المعارضة بهيئتها الحالية تصطدم بنفوذ المؤتمر الوطني أي أننا مثل ما يري راسبوتين بتنا كأنموذج العجوز التي تشارف على الموت، فربما نعيش في الزمن الضائع من عمر اتفاقية السلام الشامل. أهداف الزيارة:- لكن قد يطرح تساؤل هل بإمكان المبعوث الروسي الخاص النجاح في أخراج السودان من النفق المظلم في جولته الثانية منذ تعيينه بعد زيارته الأولي في يناير الماضي أم يكون مصيره وحصاده مثل رصيفه الأمريكي الجنرال أسكوت غريشون الذي خرج من زيارته السابقة ب((خفي حنين)) أو فلنقل ((خالي الوفاض))؟. ولعل الدلالة على أهمية الزيارة حضورها على المستوي الرئاسي حينما اطلع وزير الدولة بوزارة الخارجية علي كرتي رئيس الجمهورية المشير عمر البشير يوم أمس الأول بالقصر الجمهوري على ترتيباتها ومن المحدد أن يلتقي مارغيلوف بالرئيس في التاسع من ديسمبر الجاري برفقة وفد روسي رفيع المستوي الذي يضم مختصين في الإعلام والاقتصاد والسياسة. أجندة واسعة:- ويحمل الموفد الروسي أجندة عديدة للتباحث حولها ولكن الجانب الرئيسي منها يتعلق بسير تنفيذ اتفاقية السلام الشامل والعقبات التي تعترضها حيث تشدد موسكو على ضرورة تنفيذ الاتفاقية على الأرض، الأمر الذي يوجب عليها العمل على تقريب وجهات النظر بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان. أما الأمر الثاني فهو مرتبط بتطورات الأوضاع بدارفور والتي أبدت روسيا مراراً قلقها من التطورات فيها، ويرى ماغيلوف أن روسيا ترى أن جميع المشاكل في السودان والدول الإفريقية التي تعاني من صراعات داخلية يجب أن تحل بمساعدة المجتمع الدولي لكن دون تدخل مباشر فيها، في حديث حول تطور العلاقات الروسية السودانية أشار مارغيلوف إلى أن هذه العلاقات تكتسب أهمية كبيرة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقال: ((لهذا فان بلادنا مهتمة جداً بالاستقرار في هذه المنطقة ومستعدة من جانبها للمشاركة في إقامته)). مساندة السودان :- وأكد في حديث سابق أن بلاده تعتزم الاستمرار في علاقاتها الطبيعية مع الرئيس البشير، باعتباره ((الرئيس الشرعي والمنتخب للبلاد))، ووصف مارجليوف – خلال مؤتمر صحفي عقده في السفارة الروسية في العاصمة المصرية القاهرة – قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال البشير بأنه ((جاء في وقت غير مناسب)) مؤكد تحسن احوال معسكرات اللاجئين في دارفور. فيما قال الممثل الرئيس الروسي الخاص لشؤون السودان، للصحفيين لدي تعليقه على افتتاح المؤتمر العلمي العملي الدولي المخصص لمناقشة القضايا السودانية في موسكو اليوم ((أن السياسة الروسية تجاه السودان تهدف إلى أن لا تظهر دولة جديدة على خارطة العالم)) والمتابع للحراك الروسي تجاه القارة يجد أنه يسير بقوة في قائمة المعنيين بمجريات القارة، خصوصاً في السنوات الأخيرة حينما تحركت الأوساط الروسية لإحياء العلاقات بعد قطيعة دامت منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، ولعل انخفاض الصادرات والواردات ثلاث مرات دليل كاف على مدى التراجع ما بين نهاية الحرب الباردة وبداية نصف العقد الأول نم الألفية الجديدة. سياسة جديدة:- وتساهم روسيا في الجهود الدولية الرامية إلى التسوية في جنوب السودان. حيث تعمل مجموعة من المراقبين العسكريين التابعين لوزارة الدفاع الروسية ورجال الشرطة من ضباط وزارة الداخلية الروسية ضمن بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي ترابط في جنوب السودان. كما تم إيفاد فريق من القوات الجوية الروسية مؤلف من 4 مروحيات و 120 طياراً ومهندسا إلى السودان للمشاركة في عملية حفظ السلام في جمهورية السودان الديمقراطية. من جهته قال عميد كلية العلوم السياسية والدراسات الإستراتيجية بجامعة الزعيم الأزهري بروفسور إبراهيم ميرغني في تعليق ل (السوداني) أن روسيا تضطلع بدور جديد لها في السودان بصورة خاصة وفي القارة الإفريقية بصورة عامة وأضاف ((في اعتقادي أن روسيا أصبحت طرفاً من الدول الكبار التي تريد أن تستحوذ على الطاقة والموارد من السودان (أسوة بالولايات المتحدة، الصين، فرنسا، وبريطانيا)). وأوضح أن زيارة المبعوث الروسي الى الخرطوم مرتين خلال عام لها دلالات تعكس زيادة اهتمامها بالشأن السوداني أي أن السياسة الجديدةلموسكو وضعت موجهات للتركيز بالقضايا السودانية التي بدورها تجاهها في ظل الحراك والتوغل الصيني على القارة السمراء، وأضاف أن روسيا الآن تسعي لإيجاد موطئ قدم لها بالسودان خاصة في جوانب الطاقة او النفط كما أنها تريد تسعي للاضطلاع بدور عالمي فقد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ويذكر ميرغني هنا بالندوة التي عقدتها موسكو خلال الأشهر الماضية حول دارفور والتي وجدت خلاصتها استحساناً كما أن محاورها يمكن أن تساعد الحركات الدارفورية في وضع أسس للحلول مستقبلاً. صراع الأفيال:- ويرى مراقبون أن عودة روسيا الى القارة الإفريقية تكتسب أهمية كبيرة في ظل صراع الأفيال فيما كان الشمال الإفريقي البوابة الأمامية لهذا المنعطف وزار الرئيس السابق – رئيس الوزراء الحالي – فلاديمير بوتين كلا من الجزائر والمغرب وليبيا وحيث توجب هذه الزيارات باتفاقات وتوقيع صفقات اقتصادية وعسكرية، وهو ما فسر بأن له أبعادا على المستوي القاري. فيما اعتقد بأن أول زيارة روسية للقاهرة سنة 2005م بعد غياب طويل بمثابة منحى جديد للتعويل على مصر بأداء دور مساعد لتفعيل المحور الروسي في الفلك الإفريقي، لا سيما أن البلدين حكمتهما روابط تاريخية في الحقبة الناصرية وتعرضت لفتور في الحكم الساداتي ، لكن في ما بعد تأسست أرضية مشتركة لمرتكزات مؤسسة على التعاون في مجالات الطاقة النووية السلمية والتكنولوجيا والتسليح وبني النقل والتجارة . وهناك من نوه بان جولات بوتين في جنوب إفريقيا وبعض الدول الإفريقية أثناء فترة حكمه مهدت فعلياً لتنشيط حركة التعاون وتقوية التواصل مع هذه الدول من أجل أهداف متبادلة وغايات مشتركة. عودة قوية:- وإذا كان الاعتقاد بأن الدول الإفريقية التي استقبلت بحفاوة الرئيس ديمتري ميدفيدف قد شرعت الأبواب لعودة روسيا إلى القارة السمراء عبر واجهة الاستثمارات والإعمال التجارية ، فلا بد من التذكر أن الاتحاد السوفيتي – قبل انهياره أوائل تسعينيات القرن الماضي والذي كانت روسيا جزء منه – منح مساعدات لشعوب أفريقيا، وأعطاها دعماً معنوياً في نضالها التاريخي التحرري ضد المستعمرين الأجانب وقد دفعت الاعتبارات الخارجية والداخلية لإحياء مكانة روسيا في هذه البلدان ، وأهمها يمكننا إيرادها وفق عدد من العوامل أولها الأواصر التاريخية الراسخة مع حكومات وأحزاب هذه البلدان يجعلها أكثر حرصاً على تجديد الاتصال والتواصل، ما دام بعضها كان ذات ارتباط وثيق ويتلقي دعم الاتحاد السوفيتي وكوبا في قضايا الحركة التحررية وفي مسائل تسوية النزاعات، أما ثانيها فهو الاستقرار الروسي الداخلي أتاح الظروف المؤاتية لبناء إستراتيجية جديدة مع الدول الصديقة أو الحكومات الأخرى التي ترغب في نسج علاقاتها والقيام بتنشيط حركة التعاون معها وثالثها المنافسة الشديدة بين الصين والولايات المتحدة حول ثروات وأسواق القارة كانت انعكاسات مشجعة على إحياء الدور الروسي. عموما ترى هل يحمل المبعوث الروسي الخاص إلى السودان في معيته أوراق جديدة يمكن أن تسهم في حل المشاكل السودانية وفتح صفحة علاقات جديدة مبنية على المصالح الإستراتيجية أم أن الزيارة تأخذ بداخلها الطبع البراغماتي الديكوري؟ ام سيكون مصيرها ونتائجها كزايارة المبعوث الأمريكي غريشون ((خاوية الوفاض وبدون إحراز أي اختراقات تزيل الاحتقانات بين شريكي اتفاق السلام الشامل وتحول دون تعرضها للانهيار ..؟! فربما ينجح الروسي في ما فشل فيه الأمريكيون وعلى الأقل فقد فعلوها من قبل حينما نجحوا في أن يكونوا أول من حط على سطح القمر للمرة الأولي في تاريخ البشرية..!!! نقلاً عن صحيفة السوداني 3/12/2009م