الجزء الثاني من الحوار الذي يحكى فيه يان برونك عن أهم المحطات في فترة وجوده بالسودان وكيف ينظر لمستقبل البلد بعد الاستفتاء السودان مقبل في يناير القادم علي استفتاء حق تقرير مصير الجنوب كيف تري سيناريو ما بعد الاستفتاء بالنسبة لجنوب والشمال؟ هذا يعمتد علي النتيجة النهائية للاستفتاء والتي لا يعلمها أحد, ولكنني عندما كنت مبعوثا للأمم المتحدة كانت المهمة التي كلفت بها من قبل مجلس الأمن جعل الوحدة خيارا جاذبا للجنوبيين وهو امر منطقي لكون وحدة السودان اعتبرت مهمة للمجتمع الدولي والاتحاد الافريقي معا, وقد كانت مهمتي تقديم المساعدة عبر توفير ثلاثة شروط لجعل الوحدة اكثر جاذبية أولها أن تتم تنمية الجنوب ويري الجنوبيون نتائج السلام المتمثلة في البني التحتية والصحة والمياه والصرف الصحي, وقد حققت بعض الانجازات في هذا المجال بالرغم من صعوبة الأمر نسبة لقصر الفترة الزمينة. ثانيا ضمان الحقوق الاساسية للمواطنين ولقد كنت سعيدا جدا بالدستور الجديد للسودان ودستور الجنوب, فهما وثيقتان جيدتان ضمنتا حقوق الانسان, كما أفلحت حكومة الجنوب في ايجاد هيكل سياسي يضمن الحقوق الاساسية . ثالثا الحفاظ علي استدامة السلام بين الشمال والجنوب ومنع اتساع نطاق النزاعات العرقية وصدامات الرعاة والمزارعين في الجنوب وقد تم ذلك بنسبة نجاح كبيرة. وهنالك امر مهم ذو علاقة بهذا الامر وهو أن اندلاع حرب دارفور هيأ الأجواء لترجيح الجنوبيين لخيار الانفصال بحيث اصبحوا يفضلون الهروب من السودان ككل بصفته دولة غير قادرة علي الخروج من دوامة الحروب. ولابد لي من أن أذكر هنا أنني حذرت مجلس الأمن مرارا وطالبته بالمساعدة في ايجاد أرضية تجعل الجنوبيين يختارون ما فيه مصلحتهم ومصلحة السودان ككل ومصلحة أمن القارة الافريقية ولكن للأسف أهمل مجلس الأمن تلك التحذيرات ونسيها لعدة أعوام باعتبار أن التوقيع علي الاتفاقية في حد ذاته مثل تحقيق شئ مهم, وأكثر ما يهمني الان أن يحترم الطرفان نتيجة الاستفتاء اذا كانت الانفصال, فقد شهد مجلس الأمن بكل عضويته لأول مرة في تاريخه حفل توقيع اتفاق السلام, وهي دلالة علي الدعم الدولي لتنفيذ اتفاقية السلام. هل تري أن جنوب السودان يمتلك مقومات الدولة الناجحة, أم توافق الذين يرون بأن عدد الدول الفاشلة في العالم سيزداد دولة اضافية؟ المجتمع الدولي منذ بدء استقلال الدول الأفريقية في منتصف القرن الماضي لا ينظر لفرص نجاح الدول في حالة استقلالها أو انفصالها وهو لا يملك حق التقييم هذا. أما في شأن جنوب السودان ففي حالة انفصاله قطعا ستواجهه صعوبات في الاعتماد علي نفسه في توفير الطعام للمواطنين وتطوير اقتصادياتهم, ولكنني اعتقد أن ظروفه لن تكون أصعب من الظروف التي تواجه دولا افريقية اخري مثل النيجر وجمهورية افريقيا الوسطي. كيف تقيم استراتيجية (لويس اوكامبو) المدعي العام للمحكمة الجنائية في ملاحقة الرئيس المشير عمر البشير بتهمة ارتكاب جريمة الابادة الجماعية في الظروف الراهنة للسودان؟ في البدء أحب أن أؤكد علي دعمي التام للمحكمة وأري أنه يجب احترامها وذلك لقناعتي بأن السياسيين يجب أن ينألوا بأنفسهم عن الاجراءات القانونية, وأري أن السودان من الأفضل له الثقة في قضاة المحكمة فهم محايدون ومستقلون ولن يتجرأوا علي اصدار أحكام جائرة فليس من مصلحتهم فعل ذلك. وبالرغم من موقفي المبدئي هذا الا أنني أعتقد أنه لم يكن من الحكمة ملاحقة الرئيس السوداني فالتجرية علمتني أنه يجب تحقيق السلام أولا ومن ثم تأتي مرحلة تحقيق العدالة لاحقا, فالسعي لتحقيق العدالة أولا قد يقود لاضاعة فرص السلام, ولو كنت مكان المدعي العام لانتهجت استراتيجية مختلفة. هل تظن أن أوكامبو سينجح في جلب الرئيس البشير للاهاي لمحاكمته في ظل توازن القوي العالمية الحالي؟ لا أبداً لن ينجح بل أعتقد أن ملاحقته كانت لها نتائج عكسية, فالاجراءات القانونية يجب أن تخدم غاية محددة وهي تحقيق مصلحة الضحايا واللاجئين في اقليم دارفور, فعندما ننظر لأوضاعهم الان نجد أن خطوة اوكامبو تلك لم تحسن من أوضاعهم بل زادتها سواءاً, فالعدالة في رأيي وسيلة لتحقيق غاية وليست غاية في حد ذاتها. كيف تري الزيارتين اللتين قام بهما الرئيس البشير لتشاد وكينيا دون أن يتعرض للقبض بالرغم من أن الدولتين طرفان في ميثاق المحكمة؟ وكيف تري نتائج رفض الدولتين علي مستقبل المحكمة؟ سيؤثر موقف الدولتين سلبياً علي مستقبل المحكمة, فأنا أتفهم سياسياً موقفهما فهما يرغبان في حسن الجوار مع السودان, ولو كنت مكان الرئيسين التشادي والأوغندي لطلبت من الرئيس عمر البشير عدم الحضور تفاديا للاحراج الدولي, فقطا عدم تجاوب الرئيسين مع قرار القبض الصادر من المحكمة قوي من موقف البشير. دعني أضيف هنا نقطة مهمة بأن بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة أستن سنة وأسهم قبل الرئيسين في تقوية موقف الرئيس السوداني عندما صافحه أثناء مؤتمر دولي عقد في دولة قطر, وقد كان ذلك مباشرة بعد صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية في حق الرئيس. لقد اطلعت علي تصريح قوي لك بأن العمل الانساني رسالة وليس وظيفة لدي بعض الدول الافريقية مخاوف مما يرونه أجندة خفية للمنظمات التي تنشط في القارة, هلي تري أن تلك المخاوف مبررة في ظل اصدار قضاة المحكمة الجنائية الدولية قرارات متعلقة بأدلة وفرتها بعض المنظمات الطوعية للمدعي العام للمحكمة؟ ان معظم المنظمات الكبيرة كالصليب الأحمر وأكسفام وأطباء بلا حدود ليس لديها أجندة سياسية والعاملون فيها مهنيون ويتحملون الصعوبات بغرض تقديم خدماتهم للمحتاجين في ظروف قاسية لايمانهم بأن ما يقومون به يمثل رسالة, فهم يتعرضون للمخاطر من قبل الحكومات والمتمردين علي حد سواء. هنالك عدد قليل من المنظمات الصغيرة لديها أهداف تبشيرية تهدف لنشر الديانة المسيحية وسط اللاجئين, وهذه مجموعة بسيطة جدا وكما تري أهدافها ليست سياسية بل دينية أما بالنسبة لقضية دارفور فتلك المنظمات لم تقدم أي أدلة للمدعي العام للمحكمة الجنائية. أسمح لي بمقاطعك سيد برونك: أوكامبو لم يقم بزيارة لدارفور لجمع أدلته واعتمد علي زيارة افراد مكتبه لمعسكرات اللاجئين في تشاد والاجتماع بالموظفين العاملين بمنظمات طوعية تنشط في تلك المعسكرات!! لقد زارت فرق من مكتب المدعي العام اقليم دارفور في فترة وجودي في السودان, وقد أسهمت بنفسي في تسهيل زياراتهم, ولكن مكتب المدعي العام وجد حرية أكبر في معسكرات اللاجئين في تشاد بسبب قلة نفوذ رجال المخابرات السودانية هناك. هذا اضافة للمعلومات المتوفرة أصلا من مفوضية حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة ولجنة التحقيق الدولية برئاسة انطونيو كاسيسي, فالمحكمة الجنائية لديها أدلة تمثل أفضل المتاح حول ما حصل في دارفور ولكنها لا تملك أدلة عن من اتخذ القرارات, وهذه الأدلة محلها ليس دارفور أو تشاد بل في أماكن أخري كالخرطوم علي سبيل المثال. نقلا عن صحيفة السوداني السودانية 19/10/2010م