النجاح غير المسبوق للحزب الجمهوري في إيجاد أكثرية كبيرة في مجلس النواب، وتقليص الأكثرية التي كان يتمتع بها الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ بخسارة ستة أعضاء أتاح لزعماء الحزب الجمهوري أن يعلنوا بشكل واضح وصريح أن كثيراً من القوانين التي وقع عليها الرئيس أوباما خاصة ما يتعلق بالضمان الصحي وغيرها من الإجراءات التي اتخذها من حيث السياسة المالية، والتي تلخصت في تصريح زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل أن الهدف الرئيسي لهذا النجاح هو أن يكون الرئيس أوباما رئيساً لفترة رئاسية واحدة، بمعنى آخر أن هناك تصميماً على إجهاض أية محاولة من قبل الرئيس أوباما لإنجاز العديد من برامجه الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتعليمية . إن ردة الفعل هذه دلت على تفسير “مبالغ فيه للنجاح الذي حققه الجمهوريون في الانتخابات النصفية الأخيرة، ونشير إلى عبارة مبالغ فيه" لأن الرئيس أوباما باستطاعته أن يعطل من خلال ممارسته حق النقض “الفيتو" أي محاولة جدية لإلغاء مفاعيل القوانين التي وافق عليها في عهد الكونجرس الأخير . وبالرغم من أن ما حصل أضعف هيبة الرئيس ونفوذ الحزب الديمقراطي إجمالاً، ما يساهم في ضرورة إعادة النظر بما هو حاصل في الولاياتالمتحدة من مخاض سياسي وفكري رسم بعض خطوطه ما يسمى ب"حزب الشاي" الذي تنطوي تحت جناحيه عناصر يمينية وعنصرية توظف حالة البطالة السائدة بنسبة تسعة ونصف في المائة لتصبها في برامج شعبوية مبسطة للغاية مع العلم بأن كلمة برامج لا تنطبق على هذا التيار . إلا أنه لا يجوز أن نقلل من أهمية هذا التيار المتميز بالفلتان وانعدام العقلانية في ممارسة السياسة في العديد من الولايات، إلا أنه إضافة إلى كونه يشكل عنصر ضغط رادعاً للحزب الديمقراطي لأن يبلور برامجه إلا أنه في المدى القريب سوف يهدد القيم السياسية التي يمثلها تقليدياً الحزب الجمهوري، إذ إن هناك قطاعات مهمة داخل الحزب الجمهوري أقصاها “حزب الشاي" وبالتالي لا مفرّ من أن يستولد هذا الوضع في مرحلة لاحقة أزمة داخل الحزب الجمهوري . هنا يمكن الاستنتاج بأن دعوة الرئيس أوباما لإيجاد سياسات مشتركة تؤدي إلى تسويات وتنازلات متبادلة قد تصبح ممكنة بعد فترة الزهو التي نشاهدها حالياً في الولاياتالمتحدة . فهناك اعتقاد سائد بأنه على الرغم من التحالف الانتهازي القائم بين حزب الشاي والجمهوريين، حيث تحاول قيادة الحزب الراهنة أن توظف هذا التيار الشعبوي بهدف المجابهة مع إدارة أوباما مع العلم بأن الذين سقطوا في الانتخابات من الحزب الديمقراطي، مع بعض الاستثناءات هم مما يسمون ب “المعتدلين" داخل الحزب الديمقراطي والذين تحالف معهم الرئيس السابق كلينتون وأعيد انتخابه بعد سنتين من سيطرة الجمهوريين على الكونجرس كما هو حاصل الآن . في هذا الصدد، جابه أكثر الرؤساء شعبية خلال الثلاثين سنة الماضية بدءاً بالرئيس رونالد ريغان ثم كلينتون وأوباما، بعد سنتين من عهدهم انتصار الحزب المعارض . الديمقراطيون في عهد ريغان والجمهوريون في عهدي كلينتون وأوباما، وبعد سنتين من انتصار المعارضة نجح ريغان وكلينتون في إعادة الانتخاب لفترة أخرى والاحتمال كبير في أن يتمكن الرئيس أوباما من تأمين إعادة انتخابه، طبعاً هذا لا يعني أن هذه النتيجة سوف تكون مضمونة ولكنها مرجحة . ما كادت النتائج تعلن، حتى اتخذ البنك الاحتياطي الفيدرالي إجراء بإصدار ستمائة مليار دولار كحافز للمساهمة في تعزيز الأولويات المالية وتقليص البطالة ما يعرقل شراسة المجابهة التي ينوي زعماء الحزب الجمهوري القيام بها، خاصة وأن البنك الاحتياطي الفيدرالي هو هيئة مستقلة ومفوض بموجب تأسيسه الحفاظ على الاستقرار المالي . من هذه الزاوية فإن الكآبة التي سادت ولا تزال قد توفر الفرصة للمجلس الاقتصادي التابع للبيت الأبيض لإعادة النظر في كيفية إعادة معالجة مستوى البطالة ما يردع تمادي مجلس النواب صاحب الحق في كل التشريعات المالية وكل ما يتعلق بالميزانيات في الإدمان على تعطيل التشريعات المالية للرئيس أوباما . السؤال المطروح الآن هو كيف تنعكس هذه الخريطة السياسية الجديدة على السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام، وفي ما يتعلق بالقضايا العربية بشكل خاص؟ إن صلاحيات الرئاسة الأمريكية كبيرة ونامية دستورياً وسياسياً وبالتالي ما دام مجلس الشيوخ لا تزال أكثريته في الحزب الديمقراطي فإن التأثير على السياسات الخارجية سوف يكون قليلاً بالنسبة للتحديات التي يقوم بها الحزب الجمهوري في السياسات الداخلية والاقتصادية والاجتماعية . هذا لا يعني أن كل ما يريده الرئيس أوباما في السياسة الدفاعية والخارجية مضمون أن يتم كما تريد إدارته إلا أن باستطاعته أن يبقي ثوابت سياسته الدولية قائمة ومنها معاهدة الحد من التسليح النووي مع روسيا والتي يحاول الجمهوريون أن لا تمر، كما أن مساعدات تنمية في الدول النامية قد تتقلص في ميزانيات وزارة الخارجية نظراً لأن صلاحيات التمويل لأية سياسات تبقى في مجلس النواب ما قد يقلص من رغبة الرئيس في مساعدة الدول الفقيرة والتي تتبناها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون . يبقى أن الرئيس أوباما يرث حربين، حرباً من دون شرعية في العراق حيث يحاول بشكل جدي أن يسرّع الانسحاب منها بقدر الإمكان وكما يقول “بمسؤولية" في حين ما أورثه الغزو غير الشرعي وغير القانوني أثناء إدارة بوش أدى إلى عكس المبتغى المعلن من قبل المحافظين الجدد ولا يزال العراق يعاني من هذه التداعيات في إيجاد استقامة في الحكم وفي وحدته الوطنية . أما بالنسبة لأفغانستان، فهناك في الولاياتالمتحدة شبه إجماع بأن التدخل العسكري الأمريكي يتمتع بشرعية مقبولة وإن كانت هناك اعتراضات متنامية على ادامة فترة الحرب وأن أسبابها بالرغم انسجامها مع القانون الدولي وقرارات الأممالمتحدة لم تعد في الذاكرة الجماعية الأمريكية حاسمة بالقدر الذي كانت تتمتع به، ما يؤدي إلى رغبة وربما تصميم من جانب الرئيس أوباما على إنهاء هذه الحرب في خريف ،2011 عندئذٍ قد يؤدي هذا الأمر لأن يسترجع أوباما هيبته وقوته الانتخابية وبالتالي يعطل على ميتش ماكونيل تصميمه على إخراجه من البيت الأبيض . يبقى الموضوع المتعلق بالقضايا العربية المصيرية . ففيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، صحيح أن الرئيس أوباما تصدى جزئياً للمكابرة والغرور اللذين تميز بهما نتنياهو في تعامله مع الولاياتالمتحدة، وصحيح أيضاً أن مطالبته بتجميد الاستيطان اعتبرته “إسرائيل" مبالغة في الضغط عليها في حين أن هذه الثغرة في سياسته تجاه النزاع الفلسطيني لم تكن مطلقاً في صالح الحقوق الفلسطينية ما أدى إلى سقوط السلطة الفلسطينية في حالة الانجذاب ما جعلها تطالب بالتجميد بدلاً من التفكيك، هذا جعل من التجميد الذي هو تعريفٌ “تجميد مؤقت" وكأن الاستيطان حق وفي أحسن الحالات تقليص تمديده مرحلياً وهذا بدوره أصبح عرضة لإسقاطه كخيار في مطالبة الرئيس أوباما لحكومة نتنياهو . وقبيل الانتخابات النصفية بأيام طالب الرئيس أوباما ورئيس السلطة الفلسطينية بأن يكون هناك تجميد لشهر أو شهرين بغية “استئناف المفاوضات" كما أن الرئيس أوباما أعطى ضمانات كحوافز من أجل هذا التمديد “للتجميد" تتمثل في مساعدات عسكرية منها أسلحة متطورة، البعض منها ليس في الترسانة العسكرية الأمريكية . في هذا الصدد، نتساءل: أليس تجاوب نتنياهو مع طلب التجميد لمدة شهرين لو تم، تفوقاً استراتيجياً كبيراً مع كل الدول العربية؟ لذلك وفي هذا الظرف بالذات ومع تزايد عدد مناصري “إسرائيل" في مجلسي النواب والشيوخ كيف نتوقع الاستمرار في ما هي عليه “مفاوضات" مسيرة السلام؟ لذا، لا نستطيع أن نتوقع تجرؤ الإدارة الأمريكية في المرحلة القادمة على تلبية الحد الأدنى من تأمين الحقوق الفلسطينية ما يستوجب بالتالي من العرب إيجاد وقائع جديدة تدفع الولاياتالمتحدة إلى إعادة النظر في سياستها تجاه القضية الفلسطينية . كذلك الأمر، في هذا الصدد نجد أن السفير السابق للمملكة السعودية في واشنطن الأمير تركي الفيصل أكد في محاضرته يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني في مؤسسة كاردجي أن المملكة العربية السعودية قامت بمجهود بغية الاعتراف ب"إسرائيل" لو تجاوبت مع إعادة كل الأراضي المحتلة بما فيها القدسالشرقية أو تأمين حل لمطالبات اللاجئين الفلسطينيين، ثم حذر من عودة فلسفة المحافظين الجدد لأن عدداً كبيراً من الأمريكيين اعتبروا بأن هذه الحركة ماتت إلا أن الانتخابات التي حصلت أعطت مؤونة جديدة لمروجي الحرب أن يستمروا في تمريناتهم المفضلة بإشعال الحروب . صحيح أن الأمير تركي الفيصل ليس مسؤولاً يعبر بالضرورة عن موقف الحكومة السعودية رسمياً إلا أن هذا التقويم تتجاوب معه شرائح شعبية داخل السعودية وعلى المستوى العربي العام . من جهة أخرى أن الحكومة اللبنانية مهددة بفقدان وحدتها نتيجة للتدخل السافر من الإدارة الأمريكية الحالية وتأييدها فئة ضد فئة أخرى تحت ستار أن حزب الله هو “إرهابي" فيما تعتبره الحكومة اللبنانية والشعب اللبناني أنه يتمتع بالشرعية وبالتالي فهو حزب معترف به مشارك في البرلمان ومشارك في حكومة الوحدة الوطنية، صحيح أنه لا وجود لإجماع وطني على ذلك، كما أنه لا وجود لإجماع على إقصائه لكن هناك توافقاً على تأكيد أولوية الوحدة الوطنية في لبنان . لذلك فأي تحريض من أية جهة كانت على المستوى الدولي أو الإقليمي من شأنه أن يهدد الأمن الوطني اللبناني وهذا ما يتنافى مع أية علاقات مستقيمة بين أية دولة ولبنان . كذلك الأمر هناك مواقف تتطلب تنسيقاً عربياً حاسماً ومواقف عربية موحدة تجاه كل ما هو حاصل ليس في فلسطين ولبنان فحسب، وإنما أيضاً تجاه ما هو حاصل في السودان والصومال واليمن وغيرها وإذا بقي عدم التنسيق على حاله بين الدول العربية فسوف تتم الاختراقات من كل صوب وستمعن بدورها في تأخير استكمال الحقوق الوطنية والقومية لشعوب الأمة وفي طليعتها فلسطين . إن اجترار هذا الطلب الأخير من دون أي تجاوب عملي يستولد الكبت، وأرجو أن لا يستولد التشاؤم: إذ نستطيع أن نتجاوز الكبت ولكن التشاؤم يعني الاستقالة . المصدر: الخليج 8/11/2010