من ساحة القصر الجمهوري بالخرطوم ألقى الرئيس عمر أحمد البشير عصر اول من امس خطابا ضافيا بمناسبة استقلال السودان ال 55 وعيد السلام السادس.. كلماته كانت تماثل الذهب ومشحونة بالافكار الجيدة إن انزلت للارض قبولا وعملا لاجل الوطن والمواطن.. والحضور كان مطعما بالشخصيات الوطنية والسياسية وهذا طبيعي فالاستقلال مناسبة عصية على المقاطعة، إنه اليوم الذي رفرف فيه علم الحرية على تراب ارض المليون ميل معلنا انفكاك جسد الوطن وروح انسانه من رباط المستعمر الانجليزي الذي جسم على قلبه طويلا، غير أنه قد يكون الاخير الذي يسجل لسودان واحد وبحسب تصاعد بوصلة انفصال جنوبه.. كلمات الرئيس كانت تِبرا ليس فقط لأن السودانيين يتململون لما اصاب وطنهم من امراض فاحت رائحتها ويحتاجون متنفسا ولكن لان بها افكارا تؤشر للتصالح السياسي وتضع استراتيجية لمستقبله، ولأن العالم كله الآن متراصص بجوارهم إما بقلبه المحب لسلامته وأمنه او بأياديه الخبيثة لتفتيته وانهزامه ومقبل الايام حبلا بكل الاحتمالات، لذلك يندرج الحديث ضمن اعلى قيم الخطابة السياسية ذات الملامح الطموحة إن حاز التوافق وانزل بجدية لارض العمل المشترك والدراسة الفاحصة المتجردة التي تسطصحب الواقع الاقليمي والدولي. * ان استفتاء تقرير المصير "المحك" سيحل وقته وقبل ان تجف احبار مقالنا هذا، وقضية "أبيي" المتنازع عليها كمنطقة التماس بين القبائل ما زالت رمادية وخريطة سلام دارفور تحتاج لجهد لتنجلي معالمها وتكتمل اركانها كوثيقة ترضي تطلعات الاطراف المتحاربة وتأتي لإنسانها بأعلى سقف امانيه وان تكون محروسة بقوة دولية واقليمية وإرادة محلية أقوى.. كلمات الرئيس تدفقت ذهبا وحزمت جملة من الرؤى والافكار والتطلعات لعل ابرزها: تعزيز الامن ورفع وتيرة الإنتاج لأقصاها وتكوين حكومة ذات قاعدة عريضة وبناء جسور علاقات اقليمية ودولية متكافئة الخ، كنموذج لمعتدل الخطابة إن أحسن إنزالها بعين فاحصة لجملة ازمات السودان ولما تدفق تحت الجسور منذ اللقاء الجماهيري الشهير للبشير في عيد الحصاد بمدينة الغضارف، والذي يمكننا تصنيفه ضمن صيغ خطابات الحماسة المباحة التي تحتمل تطاير رذاذ الكلمات وسرت في جسد الجماهير التي رقصت هي الاخرى فرحة، إما لما وقع في بؤرة سمعها او لما وقر في قلبها وبحسب قناعاتها او انها ترنحت لتأتي ببعض الفرح لنفسها الموجوعة.. فالحماسة أداة فاعلة تحرك المشاعر دون ان يكون بينها وبين الحدث ارتباط والرقص يصنف كتعبير وجداني.. كنهه يظل طي الكتمان وعلم الغيب مؤشراته. * خطاب القصر الرئاسي وثيقة رسمية في مناسبة قومية وشحت جنباته الامل والرجاء وفي جوفه الكثير الذي يحتاج لاعمال العقل والفكر وتمديد ايادي العمل، انه ذهب يحتاج ليد الصانع الماهر من كوكبة السياسيين والوزراء التنفيذيين والمكلفين بادارة المؤسسات الخدمية ومن هم في موقع المقاعد الوطنية.. وفي مقابل هذا التبر يوجد تراب "يشتته" بعض النافذين في الاعين، فقبل يومين من خطاب الرئيس عقد وفد تفاوض سلام دارفور مؤتمرا صحفيا بدولة قطر ليعلن مغادرته للدوحة كختام لمسيرة التفاوض التي (اكتمل حديثها) طرحت على المنصة حزمة من الاسئلة منها: "إن خريطة الانتخابات الرئاسية رشحت للسطح شخصيات تدل بما لا يدع مجالا للشك ان رحم السودان مليء بالخبرات العلمية والاكاديمية هذا اذا تجاوزنا الاحزاب السودانية، وإرثها التليد، فهل من المؤمل استدعاء هذه الكفاءات لصالح الوطن وهو في ادق مراحله الحرجة" فاذا برئيس وفد التفاوض د. أمين حسن عمر يتلقفها ويقذف بها لسلة المهملات ويفرغها من محتواها بأنها ليست اسئلة بل رأي.. مصادرا ان تأتي اسئلتنا مشبعة بالامل كحق انساني أصيل وبرغم ان اسئلتنا كانت اصلا موجهة لمسؤول ملف دارفور د. غازي صلاح الدين فإن رجل المفاوضات الاول د. امين بعجالته المعهودة قذف بها لسلة المهملات، مصنفا اياها ضمن الرأي الذي لا يستحق الرد، وهو المفكر الذي نحترم قدراته وعلو كعبه في الميدان الاعلامي وتوزره!! * هذه نماذج لسوء تقدير النافذين في الحكم او المكلفين بحمل ملفات ضخمة كملف سلام دارفور.. ان بعض النافذين في واجهات العمل بالدولة مع الاسف الشديد يحولون احيانا التبر لتراب "والذهب لفالصو" ان الخطاب السياسي عموما يواجه بتضارب ومماحكات تطعن في جوهر التوجه العام للدولة، وتشوه صورتها وتقلل من انجازاتها التنموية المعروفة ويتلقفها العالم المفتوحة آفاقه على احترام الرأي الآخر باعتبارها نوعا من انواع المصادرة والانغلاق، إن خطاب الرئيس جاء ضمن صيغ الانفتاح ودعوته صريحة وواضحة لاستدعاء القدرات الوطنية لتتراص لاجل الوطن وعافيته وسلامة ورفاهية انسانه التي جاءت منسجمة مع اسئلتنا التي رماها صديقنا د. امين بحجر.. إن كانت طاولة التفاوض بين الخصماء تحتم استدعاء "حمارة العين وقذف قبيح القول" لكسر شكيمة الطرف الآخر لتشتيت مطالبه وتفكيك سواتره السميكة التي خلقها لتحقيق سقف مطالباته، فان هذه القاعدة التي ظل د. امين المفاوض الجسور يعتمدها في بعض لقاءاته التنويرية والصحفية او الجانبية تصنف من وجهة نظرنا المتواضعة ضمن احادية الفكر وفظاظة القول، خاصة حينما يكون المقام مقام مؤتمر صحفي يبث مباشرة لكل اطراف الدنيا ولا يريد للوطن إلا التعافي حتى ولو من باب التمني كأسئلتنا، التي سبقت حديث الرئيس او النقد الذي يمكن ان يحوله اللبيب لأدوات بناء.. نصوغ هذا كمثال يشابهه "حقنة د. عبيد" إنها نماذج لعلة السودان في بعض رموزه النافذين الذين يحولون التبر لتراب، وبدلا من ان يكونوا ادوات لتحسين جزئياته وملئها بالحياة والنشاط وترجمتها لتمشي بين الناس بسلام ومحبة، يحولها هذا البعض قصدا او سهواً او احتكاراً لتراب.. إن كلمات الرئيس التي تدفقت بمناسبة الاستقلال يمكن ان تشكل جسرا طموحا لخريطة السودان الجديد إن احسن ترجمتها.. فيا رجالات السودان وكل من موقعه فقد رمى البشير للعالم اجمع ولأبناء الوطن بدون فرز كلمات ثمينة فتتوا جزئياتها، لتتحول لذهب حقيقي يأتي بالسلام والتصالح بين ابناء الوطن ويعيد للسودان هيبته بين الامم.. افتحوا صدوركم واذهانكم لقبول الآخر قبل القذف بغليظ القول الذي يجهض الرأي ويقتل الافكار في مهدها ويجعل كل ذات حمل تجهض مولودها.. إن ما ترمون به سريعا وغير منقح لاجهزة الاعلام، يتدارسه الناس بتمهل ويكب ثقيلا وبسرعة البرق في سلة انتقاص الوطن وجرح كرامته، فالمستحدثات تحتم إعمال الفكر وإعادة صياغة الخطاب الاعلامي والسياسي والخروج من عباءة الأنا والغيرة على الكرسي.. وسلامتكم وللجميع نهدي أجمل آيات المحبة والتهاني الطيبات. * همسة: إن كنت فظاً غليظ القلب لانفض من حولك الناس. المصدر: الشرق 3/1/2011