عندما تظهر نتائج الاستفتاء على انفصال جنوب السودان، وهي على الأرجح لغير صالح من ينادون بالوحدة، لن تظهر بجوارها نسبة هؤلاء الذين شاهدنا بعضهم يذرفون الدموع على الشاشات . وكما هو الحال في كل المشاهد التاريخية ذات البعد التراجيدي فإن من يحاولون السباحة ضد التيار غالباً ما يجدون أنفسهم وحيدين لا يؤنسهم في وحدتهم الشجية غير ما تبقى من أحلام . إن كل ما يمكن قوله عن محاولات الاستدراك للحيلولة دون تقسيم السودان أصبح عديم المعنى والجدوى منذ التاسع من هذا الشهر، فالفأس ذات النصل المزدوج وقعت في الرأس، أما الثمن فقد يدفعه الجميع من يبكي ومن يقرع الطبول، لأن التاريخ ليس رهينة لأحد أو لزمن ما . واللافت للانتباه هو ما تناقلته وكالات الأنباء والفضائيات عن كثافة المشاركين في استفتاء التقسيم، ويأتي هذا النبأ متزامناً مع أنباء متفرقة عن قلة عدد المشاركين في الانتخابات البرلمانية في مختلف الأقطار العربية، لكأن نداء القسمة هو الجاذب الأكبر من نداء الوحدة وفقاً لتربويات سياسية سادت في العقود الماضية التي شهدت نوازع انعزال وانفصال اضعاف ما شهدت من نوازع التكامل والالتئام . المسألة الآن ليست في توصيف عاطفي لوداع خاصرة تغادر توأمها، فقد حدث هذا مراراً، بحيث وصف أحد المتحمسين لثقافة الانفصال خرائط الوطن العربي ببطيخة أو برتقالة تظهر على سطحها حدود تستدرج السكين وتدله على أيسر المواقع للبتر والتشطير . إن أهم ما يمكن تسجيله الآن وفي لحظة بالغة العُسر كهذه هو غياب التحليلات الاستراتيجية المعمقة، والدراسات المستقبلية التي تنذر بخسائر فادحة، مقابل سطوة اعلامية لتحليلات سطحية وآنية، لا ترى في المستقبل الا مجرد امتداد أفقي للحاضر . ثمة إذن تخارج يصل حدّ التضاد بين المقدمات والنتائج، وبين أساليب التعاطي مع اللحظة الحرجة وحيثيات هذه اللحظة . فقد أصبح عدد من يرون أبعد من أنوفهم ومصالحهم المباشرة أقل بكثير من عدد الذين صموا آذانهم كي لا يسمعوا غير صدى أصواتهم انسجاماً مع نمط من التفكير الانفعالي والرغائبي الذي تتورط ضحيته بأن لا ترى غير ما تريد رؤيته فإن شاءت أن ترى الأفعى حبلاً رأته كذلك، لكنها عندئذ ستُلدغ ولن يحميها الوهم من دفع الثمن العاجل . سمعنا بالأمس على إحدى الشاشات رجلاً سودانياً لا نعرف ما إذا كان جنوبياً أو شمالياً، شرقياً أو غربياً، ولا نعرف حتى اسمه وديانته . كان الرجل ينتحب وهو يقول إن الفراق صعب، وهو بالتأكيد ليس طرفاً سياسياً أو حتى ناشطاً، إنه مجرد انسان عادي تتدفق الكلمات من قلبه وليس من شفتيه كما يحدث للمحترفين الذين استأصلوا قلوبهم وأحياناً ضمائرهم وأسلموا أمرهم للحاسوب العقير . إنها مناسبة لقياس الفارق الكارثي بين ثقافتين، إحداهما وحدوية بدأت بالانحسار والخذلان منذ زمن بعيد، والأخرى انفصالية يغذيها مكبوت ثأري، ففي حالات معينة من الهياج والعصاب يقول الإنسان عليّ وعلى أعدائي، وقد يضرم النار في منزل جاره ناسياً أنه لن يستطيع إطفاءها وهي تتمدد نحو بيته وفراش أطفاله . وما يثير الهلع وليس الخوف فقط على مستقبل وطننا العربي أكثر مما يحدث له الآن هو مناهج وأساليب التعامل مع هذه الأحداث، فالأسوأ من الاحتلال هو المنهج الذي يتعامل معه كأمر واقع ويحاول التأقلم معه، والأسوأ من الانفصال هو ترسيخ ثقافة مضادة للوحدة، وهذا النمط الخبيث من الفيروسات سريع العدوى والانتشار الوبائي . المصدر: الخليج 12/1/2011