لم تنجح الانتفاضة الشعبية في تونس إلا بعد أن تجاوز الشعب حاجز الخوف. كانت هذه هي العبارة المفتاحية التي اتفق عليها المحللون لتفسير جموح الشعب التونسي للإطاحة بالرئيس السابق بن علي، حيث طغت احدث تونس علي إيقاع الصحافة العربية والقنوات الإخبارية، فأثر ذلك على الاهتمام غير المسبوق بقضية الاستفتاء في جنوب السودان. هل الوضع في السودان مختلف عن مقتضيات الأحداث في تونس؟ بعض المعارضين يمنون أنفسهم بحدوث السيناريو التونسي في السودان، مرددين ا، الغلاء وتفشي البطالة هي أسباب كافية لإشعال الحريق. ولكن أظن أن الأمر في السودان جد مختلف لان سلم الأولويات الوطنية في السودان يزدحم بقضايا إدارة التحول السياسي والبناء الوطني بعد انفصال الجنوب بقدر من الروية والحكمة. ولعل العقل الشعبي المناط به إحداث التغيير أسوة بالتجربة التونسية أصبح مدركا لأولويات العملية السياسية. لأن ثمرة السالم التي قطفها باتفاقية السلام الشامل لا يمكن أن يضيعها بقفزة مجهولة في الظلام، ولكن هذا لا يعني أن تطلعات الشعب في الرفاهية والاستقرار يجب تجاهلها، ولا يعني استمرار العمل الروتيني كأن شيئاً لم يكن. بل يجب إجراء إصلاحات سياسية عميقة تبدأ بإزالة التشوهات التي اقتضتها مرحلة التسوية السياسية وذهنية المجاملات والمحاصصات الأثنية والإقليمية التي أضعفت الأداء العام للدولة وقللت من الفعالية والانجاز، ولعل الأهم هو ابتدار برنامج اجتماعي واقتصادي ضخم يهتم بتوفير فرص العمل، والعيش الكريم للطبقات الفقيرة ومحدودي الدخل وإشعال فتيل الأمل والتغيير للأجيال القادمة . وعل البعض لا يتوقف في مرحلة الإصلاح السياسي والتنفيذي فقط لمواجهة تحديات المرحلة القادمة بعد انفصال الجنوب، بل يطالب بأن تطال الجراحة السياسية من تسبب في ذهاب الجنوب وانفصاله. المفكر الإسلامي المعروف فهمي هويدي الذي زار الخرطوم الأسبوع الماضي قال مستخدماً لغة الرياضة الشعبية بأن فريق كرة القدم عندما ينهزم في مباراة مصيرية يطال الشطب المدرب وبعض اللاعبين ومدير الكرة وغيرهم . فمن باب أولي أن يصدق هذا المبدأ على السياسة أيضاً، وهي أعظم خطراً على حياة الشعوب من منافسات كرة القدم، وطالب بأن تشحذ النخب السياسية في السودان أذهانها لممارسة النقد الذاتي الموضوعي وليس الاكتفاء بجلد الذات وتقريعها. لا شك أن الرسالة الأساسية للمفكر فهمي هويدي أنه لا بد من دفع ثمن للفشل في الحفاظ على وحدة السودان . البعض لا يلتفت إلى مجرد الثمن بل يهتم أكثر بمن يدفع الثمن . لا شك أن مبدا المراجعات والنقد الذاتي الذي طالب به المفكر فهمي هويدي يجري في دوائر مغلقة،وفي إطار مبادرات شخصية، ولكنه لا يصب في مجري الحوار الجمعي المطلوب في هذه المرحلة. ولعل البعض يريد إشباعاً لرغبته تصفية الحسابات والفجور في الخصومة وإرضاء لنزعة التشفي والانتقام يطالب بإقصاء اللاعبين السياسيين الذين صنعوا نيفاشا تحت شعارات دفع الثمن المطلوب لهذا الفشل. لهذا فان الجدل يحتدم الآن حول سؤالين. الأول. ما هو الثمن. والثاني من يدفع الثمن؟. أهل القصاص السياسي يهتمون فقط بمن يدفع الثمن، وفي ذلك شخصانية فاحشة لأن قائمة الاتهام عند هؤلاء حاضرة تضم الأسماء ذات الرنين والصولجان. ولكن الحوار الموضوعي يقود إلى أن سؤال من يدفع الثمن فيه استخفاف وتقليل من شان القضية الوطنية، لأن دور الأفراد مهما عظم لا يقف أمام مقتضيات التاريخ ومعطياته الموضوعية. فالنظام السياسي الذي صنع (نيفاشا) كان يدرك أن الاتفاقية هي الفصل النهائي في كتاب تاريخ السودان الحديث. وربما يتحول هؤلاء اللاعبون إلى أبطال في نظر الشعب السوداني إذا استطاع السودان أن يخرج من هذا النفق المظلم وأن يحقق معدلات تنمية ورفاهية عالية بانفصال الجنوب ويفتح شرايين الديمقراطية في جسد السياسة السودانية. ولكن بالطبع إذا ازداد الوضع سوءاً بعد الانفصال فأن المسئولية السياسية ستطال كثير من لاعبي نيفاشا وأركان الحكم. أن الجدل الوطني الموضوعي يجب أن يسلط الضوء على سؤال: ما هو الثمن؟ بعد أن تجاوزنا شرط من يدفع الثمن؟ ولعل السؤال في حد ذاته يكشف عن ملابسات اللحظة التاريخية الراهنة لأن ثمن الانفصال يجب أن يكون مراجعات شاملة في فلسفة الحكم وبنيته المؤسسية، والمشاركة السياسية ونهج التوزيع العادل للسلطة والثروة، والأهم من ذلك هو تفشي روح العدل والشفافية، ومحاربة الفساد الاقتصادي والسياسي والاهتمام بقضايا الصحة والتعليم والفقر وتوسيع مواعين الممارسة الديمقراطية. أي ثمن أقل من ذلك ربما يدفع البعض إلى خيارات متطرفة. وأختم هذا المقال بحديث ذي طرافة ودلالة حيث دعا د. غازي صلاح الدين ضاحكاً ومداعباً الدكتور الواثق كمير في مناسبة عابرة للانضمام للمؤتمر الوطني وتأسيس منبر يساري في الحزب الحاكم بعد انفصال الجنوب وتشظي قطاع الشمال. فكان رد الدكتور الواثق كمير سنأتي الى المؤتمر الوطني بعد أن تكملوا مسيرة الإصلاح الداخلي في حزبكم العتيد. هذا الحوار رغم سمته الدعابي الضحاك إلا أنه يكشف أنه يمكن هزيمة نفسسة التمترس الأيدلوجي والعداء السياسي من أجل حوار فاعل في الفضاء الوطني . روح هذا الحوار هي بعض من الثمن المطلوب لتسوية تركة الانفصال. نقلاً عن صحيفة السوداني 17/1/2011م